نشر السيد حازم جواد، وهو أحد قياديي حزب البعث في الستينات، مذكراته في "الحياة" تحت عنوان "سفر البعث وطريق المنفى". وتضمنت الحلقات كثيراً من القضايا التي تهم التاريخ العراقي. والمتابع لهذه الحلقات يلمس الابتعاد عن الحقيقة في عدد من القضايا. ولا نعتقد ان السيد جواد لا يزال متلبساً فكر البعث الدموي الذي قاد العراق الى ما هو عليه الآن. غير أنه خالف بذلك المنهج الذي أقدم عليه قياديون سابقون في الحزب، نشر في مذكراتهم، حين أقروا بالحقائق، ولم يبرئوا أنفسهم منها. ان ما وقع به السيد حازم جواد من نقل أحادي للحقيقة، من وجهة نظره، لا يعدو إلا حقائق أكيدة حاول أن يطمسها، أو أن يتهم غيره بها. فهو لا يزال، الى حد اللحظة، يسمي انقلاب 17 تموز يوليو ثورة، على رغم أن كثيرين من قياديي البعث عاد الى تسميتها حركة أو انقلاباً. يقول السيد جواد ان الحملة على الشيوعيين تمت في "قصر النهاية" عام 1963، وأن عبدالكريم قاسم سماه هذا الاسم. ولا نعتقد ان السيد حازم جواد لا يعرف الحقيقة. والحقيقة غير ذلك. فقصر الرحاب تحول في زمن عبدالكريم قاسم الى دائرة المصايف والسياحة، بعد أن تم الاستيلاء على ممتلكات وقصري العائلة المالكة: الزهور والرحاب. وجرى استغلاله كموقف ومقر للتعذيب بعد انقلاب شباط فبراير، واستلام حزب البعث السلطة في العراق عام 1963، وسمي ب"قصر النهاية" بالنظر لنهاية الإنسان عند دخوله الى هذا المعتقل الرهيب للتحقيق معه، وهذا يشير الى جسامة الاتهامات التي يتهم بها. ومن الطريف أن تعيد قيادة البعث نفسها هذا المعتقل الى الأجهزة الأمنية، ثم الى جهاز المخابرات بعد الاستيلاء الثاني على السلطة، في انقلاب 17 تموز 68، ويكون صدام التكريتي نفسه مسؤولاً عن التحقيق في اطار منظمة "حنين" التي كان يرأسها، وكانت تضم بعض الأسماء من القتلة والسوقيين. ثم آلت المسؤولية الى الجلاد ناظم كزار. وبقي القصر مقراً لرئاسة جهاز لمخابرات العراقي الى لحظة سقوط السلطة الصدامية. ويقول السيد حازم جواد ان الشهيد عبداللطيف الحاج أبدى استعداده لخيانة الحزب الشيوعي، وللتعاون معهم مع البعثيين. ويدحض أقوال السيد جواد أن الشهيد عبداللطيف الحاج، وهو شقيق السياسي العراقي الشهير عزيز الحاج، صمد بوجه التعذيب الجسدي غير المعقول من دون أن يتمكن القتلة والجلادون من التقاط كلمة واحدة تفيد بانهياره واعترافه على رفاقه، غير ترديده التزامه. واستشهد تحت التعذيب في موقف بطولي. وليس أشد تناقضاً مع الحقيقة ما نقله السيد حازم جواد عن الشهيد حسين الرضي سلام عادل، فزعم انه طلب مواجهته، وشكا عنده سوء المعاملة والتعذيب، ولما نصحه بأن يتعاون مع أجهزة التحقيق، قدم سلام عادل ثلاث نصائح الى قيادة البعث، هي: عدم تطبيق قانون الاصلاح الزراعي، وعدم الاقدام على تأميم النفط، وعدم الاتفاق على الوحدة العربية. وتساءل حازم جواد: هل ان الرجل عميل لبريطانيا؟ وقال انه لم يحترم سلام عادل، وكان يتصوره شخصية مهمة. وسنناقش ما أفاد به السيد جواد، على لسان طالب شبيب، في الصفحة 200 من كتاب شبيب أصدره علي كريم سعيد "عراق 8 شباط". فهو يذكر ان تحسين معلة تعرف، في معتقل "قصر النهاية"، على سلام عادل وهو مشدود العينين ومدمى. وفي الصفحة 195 يقول ان اللقاء تم بين علي صالح السعدي ومحسن الشيخ راضي وحازم جواد وهاني الفكيكي الذي أكد الحوار بين المجموعة وبين حسين الرضي بينما يراه طالب شبيب تحقيقاً أكثر منه حواراً، ولم يذكر أحد أن السيد جواد انفرد بحسين الرضي، كما يزعم. وحسماً للحقيقة، يذكر المرحوم طالب شبيب ص 198: "يقيناً ان حازم جواد لم يجر أي حوار مع سلام عادل". وهذا النفي يلغي صدقية الصورة التي صورها السيد حازم جواد لمقابلة سلام عادل. ويقول طالب شبيب: "ما قيمة الحوار إذا كنا قد أقدمنا على قتل جميع قادة الحزب الشيوعي، وقد تقدم الطبيب صادق حميد علوش ليقرر، كطبيب شرعي، انهم ماتوا بالسكتة القلبية لأنهم ظلوا حتى الصباح معلقين وأرجلهم مرتفعة عن الأرض قليلاً" ص 199. كنا نتمنى على السيد حازم جواد أن يجنح الى كتابة مذكرات مواطن عراقي يساهم في كتابة التاريخ السياسي العراقي بلغة عراقية ضميرية صادقة. فيكتب شهادته عن أسماء من قيادات البعث كانت لها علاقات بالمخابرات المركزية، أو الدوائر المشبوهة، وأورد، تحت علامات الاستفهام، أسماء مثل ايلي زغيب، وصالح مهدي عماش، ومحمد المهداوي، وتاصر الحاني، ولطفي العبيدي، وعلي عبدالسلام، في حين ان السيد جواد صرف النظر عن الادلاء بشهادته في هؤلاء مساهمة منه في اعماء الحقيقة، وتغييب المعلومات التي لا بد أن يعرفها عن هذا الأسماء. والى الحلقة العاشرة وجدت انا الطالب المبتدئ في التاريخ، ان ما يقوله السيد حازم جواد لا يعدو إلا تكراراً للفكر البعثي في الستينات، والحرس القومي في عام 63، الممتلئ بالحقد السياسي، والمؤدلج بغرض الاساءة الى الوطنيين، والى رموزهم وقياداتهم التي استشهدت على أيدي السيد حازم جواد ورفاقه في مسالخ البعث. ومن الطريف أن يذكر السيد حازم جواد في مذكراته ما يفيد أنه اتصل بمدحت ابراهيم جمعة، ليسمح للجنة بمقابلة الشيوعيين المعتقلين. فأخبره هذا أن شخصاً لا يفصح السيد جواد عن اسمه، ويرمز اليه بالحرفين م.م، وهو سكرتير وزير الدفاع، حضر وقام بإعدام الموقوفين الذين أعطاهم البعثيون الآمان، وان السيد جواد انفعل، ولما علم ان مجلس قيادة الثورة هو من أمر بإعدامهم سكت على مضض. يحاول السيد جواد أن يرمي تهمة اعدام سياسيين، وقادة حزب عراقي عريض المساحة، من دون محاكمة أو اثبات، على غيره، ما يدل على أنه لا يستطيع أن يتخلص من اتهامه شخصياً بارتكاب مثل هذه الجريمة، بالنظر لاعتماده الرموز والحروف التي لا تشخص القاتل الحقيقي في هذه الصورة، ولا تفيد الصورة الحقيقية في الكتابة التاريخية. بينما الحوادث الدامية لتاريخ العراق قضية تؤرق ضمير العراقيين. فالقتلة لا يزال منهم الأحياء يسرحون ويمرحون، ويتحدون شعب العراق، ويحاولون تزوير التاريخ. وهو يحاول توزيع الجريمة على جهات عدة، بغية ضياع المعالم، وعدم اظهار الفعل أو الاشتراك فيه. وبعضهم الآخر تراجع وقرر أن يواجه الحقيقة قبل أن يرحل عن هذه الدنيا، ويكتب بجرأة محدداً الأسماء الكاملة للقتلة والجناة والجواسيس، وبوضوح المتيقين، والثابت الجنان، ليدلي بشهادته أمام الله والتاريخ والعراق. زهير كاظم عبود [email protected]