الى الكاتبة الصديقة ميرال الطحاوي. انتظرت على جمري خلف شباكي الى ان ينتهي العمال من ترتيب الأثاث الجديد في غرفة الصالون، ضجيج أصواتهم المتخالط يتناهى الى غرفتي في آخر زاوية من الحوش. رائحة "الباتكس*" تنفد الى صدري وقد طردت كل أثر للبخور الذي أصرت جدتي ان تشعله ممزوجاً "بالشبّة والحرمل" كعادتها كلما استعد بيتنا لاستقبال الضيوف من الأقرباء والغرباء، اليوم أسرفت جدتي في كمية البخور. تقول: "حين يدخل العمال سيدهشهم حوشنا الواسع وبهاء أعمدته، سيشهقون لكثرة الأطفال فيه"، وجدتي تخشى من العين والحسد. حين تعترض احدى زوجات ابنها على شكوكها تغتاظ وتزيد من سرد الحكايات القديمة عن رجال اعتلت صحتهم وفقدوا مالهم، وعن نساء تساقطت شعورهن وفقدن أطفالهن وذلك كله بسبب "ضربة عين". وحين تلمح شبه استهزاء يرسم ابتسامة أو يقفز من نظرة تثور ويعلو صوتها: أليس في القرآن الكريم ما يدل إلى صحة ما أقول؟ أم تتجاهلن "ومن شر حاسد اذا حسد؟" عندها لا احد يجرؤ ان يناقش جدتي. قبل ان يدخل العمال هشت نصف اخوتي الصغار داخل حجرات أمهاتهن وحذرت ألا يخرج أحد، وجعلت من الصبيان الاكبر فرق حراسة عند الابواب. أما نحن البنات فلم نكن في حاجة لأوامرها، كنا نمتثل دائماً - بحكم العادة - للاختباء إن لاح ظل رجل. بقيت في مكاني والانتظار يقصفني حتى رأيت آخر عامل يخرج وهو يحمل كمية من بقايا السجاد الزائد. عندها ركضت الى الصالة بلهفة عازمة ان أتمرغ على السجاد الجديد. أقفز فوق الأرائك المذهبة وأتعابث بالستائر الحرير. لكن لهفتي انطفأت. وأغصان فرحي الخضر المعلقة بقلبي ذوت وتهاوت. صفعتني لحظة الدخول صورته الكبيرة تحتل صدارة الصالون بقامته التي تفتقد الى بسالة الفرسان على رغم ضخامتها. صورة بالألوان مؤطرة ببرواز ذهب عريض مزخرف ببعض النقوش. كيف جاءت الصورة؟ لعله أمر ان تعلق قبل دخول الأثاث. أراد ان يضعها ليذكرنا بأنه صاحب النعم الفائضة علينا. اعتراني الذهول ثم بدأ الغضب في داخلي يمارس عبثه وحده. لقد احتل مكان جلوسنا. بهذا سيصادر حريتنا حين نجتمع بضيوفنا. سيكون رقيباً غير مرغوب فيه. سنتصور انه يسمعنا ويرانا مما يجعلنا نحذر في الحركة والكلام. تلاشى من حولي كل شيء جديد في الصالون. لم أعد أشعر الا بالمساحة تضيق وتضيف حتى تتحول جداراً لا يقبل الا صورته. اقتربت من الصورة التي يتشرنق داخل اطارها. رأيت ظلي ينعكس على زجاجها اللامع. تضيع قامتي أمام قامته المديدة. وأنا أتمارى بالزجاج وأقوم بحركات عشوائية متحدية اياه بأنني قادرة على الحركة في حضرته، ثم انضبطت بوقفتي وبدأت أقارن بين صورته وظل صورتي. هذا رأسي الصغير الذي لا يحمل غير أحلام طفولة مقموعة. وخيالات لغد حر قد يأتي ويسمح لرفرفات أحلامي النحيلة ان تطير وتتحقق. ورأسه هذا المزدحم بالحسابات. بالربح الكثير والخسارات النادرة وبالتخطيط لأساليب قمعنا والتسلط علينا. انحدرت لمنطقة الصدر - صدري الذي لم يكن رمانه قد تفتح بعد. ولم تشرأب عواطفه لأبعد من حدود الحب لأبطال السينما، صدر يحمل قلباً صغيراً يقرع من الخوف اكثر مما يخفق فرحاً لو أخطأت قبلة طريقها الى خدي منه أو من احدى نساء الحوش، وهذا صدره العريض بقلبه المغلقة رتاجاته الا عن رغبته في عشق النساء والمال وكثرة النسل. قلب لا أحتل فيه نقطة. ولا تسبح صورتي في دماء أوردته المتصلبة. قلب لا يمكن ان يكون وسادة لبوحي وحزني. انحدرت الى الساقين، ساقي العاجزين أبداً عن الانفلات خارج حدود البيت. قدماي الصغيرتان اللتان ما زالتا تنكران أوجاع ذلك النهار. أشق شريحة من ذاكرتي، تطفو الأشياء الغاطسة من عمقها، يهز لي صوته وهو يدوي كمدفع الإفطار: - أعطوني الجحيشة. ** لا أحد قادر ان يخالف الأمر، لكن جدتي وهو يقيد قدمي بالحبل الخشن توسلته: - حرام عليك. لا يحتمل باطن قدميها لظى عصاك. لم يأبه بتوسلها. ذكرته: - إشفق على ضلع من ضلوعك. استمر وصوته ينبه جدتي: - الضلع الأعوج لا بد ان يعتدل باكراً. إنهال بالعصا يقطع لحمي الرقيق ويضاعف قسوته كلما جأرت من الألم وكأنني بصراخي أضخه بالمزيد من القوة. ليلتها لم أنم. أضواني تعب قدمي المتورمتين. وجدتي وحدها ساهرة تطيب جراحي برأفة. أزحتها قليلاً حين شتمته، فصرخت بحدة: - "أص أص. عيب ان تشتمي أبوك ولي نعمتك!". ها هما ساقاه الطويلتان المسخرتان للتجول والأسفار، ممتدتان أمامي كعصاتين متأهبتين لإخراس من يعارض بالفعل أو الكلام. وتلك قدماه الخاليتان من الجروح ترتعان بدفء الحذاء الجلدي الثمين. ارتفعت بنظري الى وجهه الصارم أتأمله. كم اشتهيت مرة ان أراه مبتسماً لأتحقق ان كانت أسنانه سليمة أو صفراً. عيناه المتسعتان المتوثبتان تقدحان شرراً ووعيداً، تحسست وجهي الناعم الجميل. فوخزني صدى كلماته الوبرية وهي تبصق الشتائم بوجهي الذي يذكره بأمي: - لعنك الله. لا أدري كيف التقطت تقاسيم وجه أمك. لم تسلم أمي من كراهيته على رغم انها تأبطت أحزانها وقهرها وتوسدت حجارة قبرها مستريحة من عيشها معه. شعرت باللظى يستعر في داخلي. يفور كما الزبد الملوث ويثير رذاذ السؤال: "لِمَ يفرض وجوده غير المرغوب فيه؟ لِمَ يحظى بالإطار وكل الجدار بينما أكون أنا في ظل الصورة منكسرة أمامها أكاد أتفتت؟". دفعني موج حقدي ان أنتقم منه. تلفت خشية ان تكون ثمة نظرات تتربص بي من خلف الشبابيك وتباغتني. حين تأكدت أنني في أمان، سحبت الطاولة الرخامية، ارتفعت حتى أوازي قامته، وبكل أوجاع السنين الرابضة على روحي، رفعت كفي المرتعشة ورشقت وجهه بنار صفعتي اللاهب. لم يتحرك. لم يدافع عن نفسه مما دفعني الى ان أضاعف الصفعة مرات ومرات حتى شعرت بكفي تحمر وتتوجع، لكن شعوري بلذة الانتصار عليه أنستني ذلك الوجع. شعرت بأنني أنتقم لنفسي ولأمي التي ما زلت أحس بأوجاعها وبمهانتها، وبتردد صوتها النائح في مسامعي كلما استبد بي الشوق اليها. منذ ذلك اليوم صارت هوايتي الاختباء في غرفة الصالون لأكيل الصفعات لتلك الصورة. صنعاء 14-1-2004