يلفت الانتباه - في كتاب رفاعة الطهطاوي "تخليص الإبريز في تلخيص باريز، أو الديوان النفيس" - الدهشة التي تصيب المتخلِّف من مظاهر التقدم، وكيف أنها تظل حالاً مقترنة بالإعجاب الذي تعجز الكلمات عن التعبير عن خصوصيته الشعورية في بعض الحالات. وإذا كانت المظاهر المادية تشمل العمارة وتخطيط الشوارع والميادين والمتنزهات والفنادق والعربات، حيث تبدو جدّة التمدن الغربي بهجة للعين وصدمة للوعي، فإن هذه المظاهر تشمل أماكن الفنون والعلوم الجامعات، المكتبات، الأوبرا، المسارح واحتفالاتها الكرنفالات وتجاوز ذلك إلى العادات والتقاليد وأنظمة الحكم ومبادئ الفصل بين السلطات... إلخ. ومن هذا المنظور، تؤدي بعض المظاهر المادية دوراً دالاً يدنو من أحوال الرمز الكاشف عن توتر علاقة العارف بجدة الموضوع المعروف، وما يتصل بهذا التوتر من مشاعر مختلفة أو مختلطة. ومثال ذلك في كتاب رفاعة الطهطاوي حديثه عن المقاهي الفرنسية التي تمتلئ جدرانها بالمرايا العظيمة التي رآها رفاعة للمرة الأولى، فظهر له منها رونق عظيم واندهاش طريف، عبّر عنه بقوله: "وحين دخولي بهذه القهوة ومكثي بها ظننت أنها قصبة عظيمة نافذة لما أن بها من الناس، فإذا بدا جماعة داخلها أو خارجها ظهرت صورهم في كل جوانب الزجاج، وظهر تعددهم مشياً وقعوداً وقياماً، فيظن أن هذه القهوة طريق، وما عرفت أنها قهوة مسدودة إلا بسبب أني رأيت عدة صورنا في المرآة، فعرفت أن هذا كله بسبب خاصية الزجاج". والوصف دال على أحوال الدهشة التي أصابت رفاعة عندما دخل إلى قاعات المرايا للمرة الأولى، فأصبح هو الناظر والمنظور إليه، الأمر الذي يستدعي رمزية المرآة في العملية التي تتيح للأنا أن تتعرف على حضورها، بأن تنقسم على نفسها لتغدو موضوعاً للتأمل وفاعلاً له. وقد توقف المرحوم أنور لوقا متأنياً أمام هذه الرمزية في كتابه المتميز عن رفاعة الطهطاوي "عودة رفاعة الطهطاوي" مراحل استفاقة الفكر في ضوء الأدب المقارن" الصادر عن دار المعارف في تونس - سوسة سنة 1979. ويصل أنور لوقا بين هذه الرمزية وما وصفه بأنه وعي الحداثة الذي انبثق داخل رفاعة ووضعه على عتبة عالم جديد، وذلك على نحو يجعل من مشهد المرآة لحظة تحوّل معرفي بالغ العمق والتأثير. ويرى أنور لوقا في هذه اللحظة حدثاً وجودياً مهماً، تتضح قيمته إذا أفدنا في تحليله من أبحاث التحليل النفسي التي قام بها جاك لاكان، حيث الاهتمام بمرحلة المرآة التي تجسّد - رمزياً - انتقال وعي الطفل إلى بدايات النضج الذاتي. وفي تفاصيل وصف رفاعة لمشهد المرآة - كما يرى لوقا - ما يوازي رمزية المرآة عند لاكان، ويؤكدها من منظور الوعي الذي يفارق عالمه التقليدي ليدخل عالم الحداثة، ولكن من خلال الهزة التي تفصل ما بين العالمين، وتؤدي إلى مجاوزة العالم الأول. ووقفة رفاعة المشدوهة أمام مرايا مقهى مرسيليا وقفة دالة بهذا المعنى، فهي - بحسب لوقا - هزة وجودية اعترته وهو على عتبة العالم المجهول، وأرهصت بحركته اللاحقة التي أسفر بها برنامجه التجديدي، بعد أن تلقى لوامعه في لحظة فريدة. ويدعم تفسير أنور لوقا ما نراه في نص رفاعة من علامات دلالية تقترن بالمغزى المقترن برؤية رفاعة صوراً عدة لشخصه في لحظة واحدة، وذلك جنباًً إلى جنب تعدد صور الناس الذي دفعه إلى الظن أن القهوة طريق. والطريق سفر في الوعي والشعور، بالمعنى الصوفي الذي تتجسّد به دلالة المغايرة في الأحوال والتغير في المقامات. وليس من الضروري أن نمضي مع المعنى الصوفي إلى مداه، ولكن حسبنا ملاحظة أن الأنا في المرآة علامة على إمكان اتساع أفقها الذي يحيل الوعي المفرد إلى جمع بالتجارب التي يكتسبها، ويحيل العقل الواحد إلى عقول متكثرة باغتناء هذا العقل بثمرات العقول المغايرة. ولا يخلو هذا التعدد من دلالة ممتدة، تصل بين معنى الاتساع بالأنا والقدرة على النظر إليها بما يجعل منها موضوعاً للمساءلة أو النقد في الوقت نفسه. وفي ذلك كله يتحول حضور المرآة من حضور موضوع جذّاب تحدّق فيه العين، وتنبهر به، إلى حضور تمثيلي يجعل من مشاهدة رفاعة لصوره في المرآة نوعاً من الموازاة الرمزية غير المقصودة لوعيه بأوضاعه المعرفية وأحواله الحضارية في مرآة الحضارة الغربية. ومن المؤكد أن باريس نفسها كانت تؤدي دور المرآة في وعي رفاعة الطهطاوي داخل هذا المنحى الدلالي نفسه. ولذلك كانت تدفعه إلى المقارنة بين ما يراه فيها وما تستدعيه ذاكرته من صور وطنه. والأمثلة على ذلك كثيرة في "تخليص الإبريز". أولها ما يذكره في خطبة الكتاب من أن هدفه من الرحلة كان التزوّد من العلوم البرانية والفنون والصنائع "فإن كمال ذلك ببلاد الإفرنج أمر ثابت شائع. والحق أحق أن يتبع". ويتبع رفاعة هذه الإشارة بما يغدو قريناً لأمثالها، على طريقة "والضد يظهر حسنه الضد"، ما يؤكده بالقسم على النحو التالي: "ولعمر الله إنني، مدة إقامتي بهذه البلاد، في حسرة على تمتّعها بذلك وخلو ممالك الإسلام منه". ويختتم خطبة الكتاب بالدعاء لله أن يغدو كتابه مقبولاً لدى الخاص والعام، وأن يوقظ به من نوم الغفلة سائر أمم الإسلام. ويبدو أن هذا الحرص على إيقاظ النيام هو الذي دفعه إلى الاهتمام باللغة الفرنسية من حيث قدراتها الأدائية التي لا يتلاعب فيها بالعبارات ولا بالمحسنات البديعية اللفظية "وكذا غالب المحسنات البديعية المعنوية، وربما عُدّ ما يكون من المحسنات في العربية ركاكة عند الفرنسيين". ويتصل بذلك ما ينتهي إليه من أن سهولة اللغة الفرنسية تعينهم على التقدم، حيث إنه لا التباس فيها أصلاً، فالألفاظ مبينة بنفسها، والقارئ لكتاباتها لا يحتاج إلى تطبيق ألفاظه على قواعد أخرى برانية من علم آخر، وذلك "بخلاف اللغة العربية مثلاً، فإن الإنسان الذي يطالع كتاباً من كتبها في علم من العلوم يحتاج إلى أن يطبقه على سائر آلات اللغة، ويدقِّق في الألفاظ ما أمكن، ويحمّل العبارة معاني بعيدة عن ظاهرها". وأما كتب الفرنسيس فلا شيء من ذلك فيها، فليس لكتبها شرَّاح ولا حواش... فإذا شرع الإنسان في مطالعة كتاب في أي علم كان، تفرَّغ لفهم مسائل ذلك العلم وقواعده من غير محاكّة الألفاظ". وإذا كانت اللغة تدل على الفكر، في علاقته بآلاته التي تدفعه إلى التقدم، أو التخلف، فإن تدبير الدولة يدل على تقدمها وتخلفها من حيث شيوع العدل فيها، أو غيابه. ولذلك يأتي تعليق رفاعة على المادة الأولى والثانية من الدستور الفرنسي تعليقاً بالغ الدلالة، خصوصاً لأن هاتين المادتين تنصّان على أن سائر الفرنساوية مستوون قدام الشريعة، وأنهم يعطون من أموالهم بغير امتياز شيئاً معيناً لبيت المال، كل إنسان بحسب ثروته. ويعقِّب رفاعة على ذلك بأن مبدأ المساواة من جوامع الكلم عند الفرنساوية، ومن الأدلة الواضحة على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية، وتقدمهم في الآداب الحضرية. ويمضي في شرح معنى الضرائب بقوله إنها "لو كانت مرتّبة في بلاد الإسلام كما هي في تلك البلاد لطابت النفس". ولا يكتفي رفاعة بذلك، بل يضيف إليه شارحاً أن القانون الفرنسي "فيه أمور لا ينكر ذوو العقول أنها من باب العدل". ويتناول ما يقترن بمبدأ العدل من الحرية السياسية والفكرية التي "تقوِّي كل إنسان على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله مما لا يضر غيره". ولا يغفل ما يتصل بمبدأ الحرية من ازدهار الصحافة "الورقات اليومية المسماة بالجورنالات والكازيطات". وهي التي يعرف منها سائر الأخبار المتجددة، داخلياً أو خارجياً. ومن فوائدها الجليلة "أن الإنسان إذا فعل فعلاً عظيماً، أو رديئاً، وكان من الأمور المهمة، كتبه أهل الجورنال ليكون معلوماً للخاص والعام، لترغيب صاحب العمل الطيب، وردع صاحب الفعلة الخبيثة، وكذلك إذا كان الإنسان مظلوماً من إنسان، كتب مظلمته في هذه الورقات، فيطلع عليها الخاص والعام، فيعرف قصة المظلوم والظالم من غير عدول عما وقع فيها، ولا تبديل، وتصل إلى محل الحكم، ويحكم فيها بحسب القوانين المقررة، فيكون مثل هذا الأمر عبرة لمن يعتبر". وعندما ينتقل رفاعة من النظم السياسية إلى العادات الاجتماعية في المنازل ويتطرق إلى وصف غرف الاستقبال في بيوت الفرنساوية، وكيف تقبل سيدة البيت لتحية الضيف، أنيقة، نضرة، وسط أثاث يماثلها في الجمال، لا يملك إلا أن يقارن بينها وبين غرف الاستقبال في بيوت القاهرة، معلِّقا بقوله: "فأين هذه الأرض بما احتوت عليه من اللطائف من أرضنا التي يحيا فيها الإنسان بإعطاء شبق الدخان من يد خادم في الغالب قبيح اللون". ويقوده ذلك إلى الحديث عن أشكال النظافة في باريس التي تذكِّره - على سبيل التضاد - بأشكال الوساخة في مصر، ويقارن بين اتساع الميادين النظيفة ووساختها في مدينته التي فارقها، غير ناسٍ أن يتحدث عن العادات الصحية التي لم تكن تعرفها مدينته في ذلك الوقت. وتقوده أشكال النظافة إلى غيرها من أشكال الحياة في باريس التي تعيده باستمرار إلى وطنه في مدى المقارنة المؤسية، الظاهرة والباطنة، المباشرة وغير المباشرة، فعلاقات الحضور التي تمثلها باريس تقود دائماً إلى علاقات الغياب التي تمثلها القاهرة، والتي تبرزها المواقف الحادة إلى مرتبة الحضور لاكتمال دلالة الأسى على التخلّف والرغبة الحادة في التقدم. وقد نتج من ذلك أن كتاب رفاعة لم يكن وصفاً لأوروبا وحدها، أو وصفاً لأحوال التقدم الفرنسي على وجه الخصوص، وإنما كان وصفاً لأحوال الوطن العربي في الوقت نفسه، ومن ثم وصفاً لأحوال التخلف. ولذلك كانت عناصر الحضور في الوصف مقترنة بعناصر الغياب التي كانت تشير دائماً إلى الأصل الذي يستعاد، إما على سبيل الاستهجان لما فيه بالقياس إلى استحسان ما هو موجود لدى الآخر، أو على سبيل المقارنة المضمرة التي لا تخفي الإعجاب بالآخر. ولكن لا تعني وقفة رفاعة على عتبة وعي حداثي جديد أنه فارق وعيه القديم تماماً، أو تخلى عن كل ما احتواه هذا العقل من ميراث عقلاني. فمن الواضح أن البنية العقلية التي انطوى عليها لم تكن تقبل إلا ما يتوافق معها، وترفض ما لا يتوافق معها. ولذلك لم يقبل رفاعة الطهطاوي - على سبيل المثال - من مظاهر التقدم في الغرب إلا ما رأى له سنداً عقلانياً لا يتعارض والشرع الذي كان يجسده رفاعة بثقافته الدينية، مؤكداً ذلك في مفتتح كتابه بقوله: "وقد أشهدت الله سبحانه وتعالى على ألاّ أحيد في جميع ما أقوله عن طريق الحق، وأن أفشي ما سمح به خاطري من الحكم باستحسان بعض أمور هذه البلاد وعوائدها بحسب ما يقتضيه الحال. ومن المعلوم أني لا أستحسن إلا ما لم يخالف نصَّ الشريعة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأشرف التحية". وكان استحسان ما وافق الشريعة يتم على أساس عقلاني عند رفاعة الذي لم يتخل عن نزعته العقلانية، وإنما زادتها باريس عمقاً واتساعاً في مدى التأويل. ومن المؤكد أن تراثه العقلاني الذي عرف "فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال" هو الذي شجَّعه على الإفادة من أفكار التنوير الأوروبي بما يناسب طموح تطلعه إلى مستقبل واعد. ولذلك جعل رفاعة من مبدأ التحسين والتقبيح العقليين الذي ورثه عن المعتزلة إطاراً مرجعياً لقبول أو رفض ما طالعه في كتب التنوير الأوروبية، أو ما تأثر به من منجزات الآخر. هكذا، كتب في "تخليص الإبريز" معلناً أن: "الأمة الفرنسية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين، وأن أبناءها يعتقدون أنه لا يمكن تخلّف الأمور الطبيعية أصلاً، وأن الأديان إنما جاءت لتدل الإنسان على فعل الخير واجتناب ضده، وأن عمارة البلاد وتطرق الناس وتقدمهم في الآداب والظرافة تسد مسد الأديان، وأن الممالك العامرة تصنع فيها الأمور السياسية كالأمور الشرعية". وهذا كلام يبرر إعجاب رفاعة بما قرأه في مجال الحقوق الطبيعية الذي هو "عبارة عن التحسين والتقبيح العقليين، يجعله الفرنج أساساً لأحكامهم السياسية المسماة عندهم شرعية". وهو إعجاب يجد ملاذه في كتاب "روح الشرائع" لمونتسكيو 1689-1755 الذي رآه رفاعة "أشبه بميزان بين المذاهب الشرعية والسياسية، ومبنياً على التحسين والتقبيح". وكان ذلك علامة على قبول مبدأ الفصل بين السلطات الذي ذهب إليه مونتسكيو في كتابه الذي أصدره سنة 1734 قبل أن يصل رفاعة إلى باريس باثنين وتسعين عاماً. ومن لوازم هذا المبدأ ضرورة الفصل بين السلطة الروحية والسلطة المدنية، وهو ضرورة لم ير فيها رفاعة تناقضا مع الشريعة الإسلامية التي لا تمنع من قيام الدولة المدنية. وكان من نتيجة ذلك انفتاح الأبواب في كتابات رفاعة لأفكار المجتمع المدني، ليس بصفته نقيضاً للدين، وإنما بصفته مجتمع المؤسسات القانونية الذي لا مكان فيه لحكم الإكليروس من ناحية، ويمكن أن يعتمد على مصادر داخل الميراث الإسلامي العقلاني نفسه من ناحية مقابلة. ولذلك لم يشعر رفاعة بتناقض بين الاستخدام الاجتماعي لمبدأ التحسين والتقبيح العقليين عند المعتزلة، والمبدأ التنويري الفرنسي الذي انبنى على إمكان تأسيس المجتمع على مبادئ أخلاقية، مستنبطة بواسطة البحث العقلاني في الطبيعة العامة للحياة الاجتماعية. ومن هذا المنطلق كان تقبّل رفاعة معنى الدستور، في كتابه وكتاباته، فعلاً آخر من أفعال إعجابه المقرون بالدهشة إزاء صور التقدم التي تأثر بها في فرنسا. وهي الصور التي جعلته ينظر إلى الدستور من حيث هو تعاقد مدني يتحقق في كل أمة لها طابع النظام والاستقرار، ويتقبل معناه بصفته "الشريعة" البشرية التي تنظِّم أمور الدولة المدنية، وتفصل بين سلطاتها، وتصون كل أطرافها.