ثلاثة أيام كاملة عاد فيها رفاعة الطهطاوي الى معترك النقاش مع بعض المثقفين العرب والأجانب في قاعات المجلس الأعلى للثقافة في مصر خلال الندوة الدولية التي أقيمت في مناسبة مرور مئتي عام على مولده. عاد صاحب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" إلى زمانه وربما ابتسم للحظات وهو يلمح الحيرة في عيون هؤلاء جميعاً لأنهم لم ينتهوا إلى نتيجة حاسمة ازاء مواقفه وأفكاره التي غيرت عصره ورسمت الطريق إلى عصرهم. لكنّ المؤكد أنه تحسر حين لمس أن كثيراً من الأمور التي كان يظن أن أفكاره حسمتها برزت في واقع الثقافة العربية من جديد، على نحو يؤكد أن أحفاده لم يحسنوا استقبال رسالته، فبقي هو، صاحبها، موضعاً لسوء الفهم وربما للاتهام من تيارات التقليد والمحافظة، التي يحلو لها دائماً اتهامه ب"تخريب الهوية الإسلامية". بدت الندوة، في معنى ما محاولة لإلغاء هذا الالتباس وقراءة جهود رفاعة في سياقها التاريخي، الذي حرص الباحث يونان لبيب رزق مقرر الندوة على إيضاحه منذ الجلسة الافتتاحية، منبهاً الحاضرين إلى خطورة قراءة نتاج الطهطاوي من منظور معاصر، ولافتاً إلى أن المحتفى به عاش اثنين وسبعين عاماً هي من أعوام مصر الفارقة وهي سنوات تمثل صعود مشروع التحديث وانكساره في مصر الحديثة. وكان "صاحب مناهج الألباب المصرية" أحد أهم الرموز الذين بنوا جسور اللغة المشتركة بينهم وبين الغرب وتبنى عناصر التحديث الجديدة ممثلة في الصحافة والتعليم والتحديث وسائر المشاريع التي قامت على أساسها الدولة المصرية. وبدا المفكر والناقد جابر عصفور، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، حريصاً في كلمته على إيجاز المحاور الأساسية في مشروع الطهطاوي، مستنداً في ذلك الى عبارات نشرها الطهطاوي في مؤلفاته ومنها عبارة يقول فيها: "ليكن الوطن مكان سعادتنا أجمعين نبنيه بالحرية والفكر والمصنع". وقال عصفور إنه "لا يصح أن ننسب أفكار الطهطاوي إلى الأزهر فقط وإنما إلى التراث العقلاني المستنير في تراثنا العربي كله، ولا يمكن أيضاً أن ننسب هذه الأفكار إلى فرنسا وحدها كما يفعل هؤلاء "المهووسون" بتقليد ما رأوه في الغرب، فهو لم ينبهر أو يندفع بسذاجة إلى التقليد وإنما وضع كل شيء موضع المساءلة". وأضاف عصفور: "إذا كانت القصة القصيرة خرجت من عباءة الكاتب الروسي غوغول، فإن النهضة الفكرية العربية بدأت من عباءة الطهطاوي، والاحتفال به يبقى تأكيداً جديداً على هذا المعنى وعلى أن أحفاد رفاعة يواصلون أداء رسالته". وعبْر أكثر من عشر جلسات سعى المشاركون في الندوة إلى تأمل مسارات مشروع التحديث في فكر الطهطاوي خصوصاً في ما يتعلق بارتباط هذا المشروع بخيارات السلطة، الأمر الذي جعل الطهطاوي حالاً نموذجية لدرس علاقة المثقف بالسلطة. ومنذ البداية ألقت هذه القضية بظلها على الكثير من الأبحاث التي أثارت النقاش، سواء في الجلسات أو الموائد المستديرة المصاحبة لها. ومن أبرز ما قدم في هذا السياق بحث الناقد أحمد زكريا الشلق حول أثر التجربة الأوروبية التي عايشها الطهطاوي "معايشة كاملة" خلال وجوده في باريس في صوغ أفكاره عن السلطة، الأمر الذي جعله قريباً من نموذجها الغربي طوال الوقت. وبعقلية قانونية لمس يحيى الجمل أستاذ القانون الدستوري المؤثرات الفرنسية التي حكمت صوغ الفكر السياسي للطهطاوي، خصوصاً ما يرتبط بحديثه عن قضية "الولاء الفاهم" التي تنظم علاقة الرعية بالوالي. أما محمد عفيفي أستاذ التاريخ في جامعة القاهرة فناقش كيف استقبل الطهطاوي الأزهري مفهوم "المواطنة" الشائع في خطاب التنوير الفرنسي، وهي القضية ذاتها التي لمسها مجدي عبد الحافظ. لكن عفيفي نبّه إلى أن المحتفى به كان يترجم أثناء اشتغاله على الدستور الفرنسي كلمة "المواطنون" ب"الرعية" على رغم أن كلمة "الوطن" كانت موجودة في القاموس اللغوي في عصره. وانتبهت الباحثة زينب الخضيري إلى قدرة الطهطاوي على تلقيح مشروعه التحديثي بمرجعيات تراثية وهي تناقش حضور التراث في أفكاره إذ لم يلغ الجانب الديني كمرجعية في التحديث إدراكاً منه لأهمية دوره، ولكنه ركز على ضرورة الاجتهاد والتجديد. وتوقف رضوان السيد أمام هذه المسألة ملاحظاً أن الطهطاوي أراد من خلال اللجوء إلى استشهادات تراثية تأييد أطروحاته الجديدة وإكسابها شرعية وإثبات عدم التعارض بين قيم التحديث المستمدة من الغرب والتراث العربي الإسلامي. لكن مسارات الندوة لم تمض في اتجاه أحادي يؤكد طوال الوقت معجزة الطهطاوي، لأن هناك من رأى في هذه الأفكار الخطوة الأولى للتأسيس لمشروع "التلفيق بين ما هو مدني وما هو ديني" على النحو الذي أشار إليه الحبيب الجنحاني. رصد الجنحاني بداية حال التوفيق بين الإسلام والحداثة "وهي الحال التي استمرت منذ الطهطاوي حتى وصلت إلى طه حسين والتي اضطر إليها المفكرون الليبراليون لمواجهة ضغوط انتهت بنا بدلاً من التوفيق إلى التلفيق والى الاقتباس من عناصر الحداثة الأوروبية لوضع واحات من التحديث تمثل قاطرة جرت وراءها مجتمعات ضعيفة وراكدة". ولعلّ هذا ما نبه إليه الباحث الفرنسي آلان روسيون بطريقة مختلفة وهو يشير الى ما سماه "اختراع التحديث المجهض"، في سياق رصده جهود الطهطاوي، منتهياً إلى أن صاحب "مناهج الألباب" لا يمثل فقط أول مفكر أدخل الليبرالية الى الفكر المصري وإنما هو أيضا رائد تحديث الفكر السياسي العربي. وأشار المفكر المصري أنور عبد الملك في ورقته إلى تركيز رفاعة على رسالة أساسية هي بناء قوة مصر، ومن هنا كان التوجه والتركيز على توحيد كل القوى والفصائل المجتمعية وراء هذا الهدف من دون أدنى تمييز سياسي أو مذهبي. وبرهن رفاعة أن التضاد المزعوم بين الخصوصية الحضارية والقومية ومقتضيات التحديث لا يمت بصلة إلى تاريخنا الوطني. ولذلك اعتبر عبد الملك أن جهود الطهطاوي تصب في ما يمكن أن يسمى التوجه التوحيدي للحركة الوطنية. دراسات أخرى توقفت أمام دور الطهطاوي في مشروع التحديث الذي تبناه محمد علي والعلاقة بين المشروعين، ومنها دراسة أُمنية عامر التي قارنت بين عقلية تمثل قوة السلطة وعقلية أخرى تملك قوة الفكر المستنير، وانتهت إلى وجود اتفاق في الرؤية وخلاف في الوسائل والمنظور. وأشار أنور لوقا إلى أن "الوالي طلب جيشاً فقدم المثقف مدرسة هي ذاتها التي صاغت وعي الثوار الذين خرجوا مع عرابي لمواجهة استبداد الخديوي توفيق". وركزت أوراق أخرى على قراءة مؤلفات بعينها ومنها دراسة رؤوف عباس عن مشروع النهضة الثقافية عند الطهطاوي، كما تجلت في مجلة "روضة المدارس" التي أصدرها في نيسان أبريل 1870. أما حسن حنفي فتوقف عند آخر مؤلفات الطهطاوي وهو كتاب "مناهج الألباب في مباهج الآداب العصرية"، وقال: "إن هذا الكتاب فيه تجربة الطهطاوي وعصره كاملة" ويدور حول مفهومين: الوطن والمناهج العمومية. فالوطن ليس الولاية التركية وإنما هو رابطة الإنسان بالأرض وهو الدولة والمنافع العمومية هي الرابط بين المجتمع والدولة، وظيفة المجتمع الإنتاج ووظيفة الدولة تحقيق المنافع العمومية في إطار قدرة الدولة في تحقيق ما يسميه "المنافع العمومية" التي كانت لدى الطهطاوي هي العامل الحاسم في تطوير المجتمعات". ونالت جهود الطهطاوي كتربوي عناية كبيرة خصوصاً في ورقة فيصل دراج التي ميزت بين مشروع الطهطاوي في المرشد الأمين ومشروع طه حسين في مستقبل الثقافة في مصر، معتبرًا أن الثاني تطويرٌ علماني لمشروع الأول ينقله من حيز الأفكار إلى حيز التطبيق العملي. والى هذه الأبحاث أثارت دراسات أخرى النقاش عن دور الطهطاوي في تجديد الأدب العربي ومنها ورقة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي التي انتبهت إلى جهوده في التعرف على أشكال وأنماط جديدة لم تكن معروفة قبل تبلور حركة الإحياء نهاية القرن التاسع عشر. وتابع آخرون جهود الطهطاوي مترجمًا ودوره في تطوير الصحافة ورؤاه الاقتصادية ودلالة أفكاره الاقتصادية وصلتها بالحاضر على نحو ما فعل محمد دويدار، فيما ركزت أوراق أخرى على أفكاره الإصلاحية ودعوته المبكرة إلى إنصاف المرأة كمفكر مستنير طرح أسئلة جريئة يتردد الكثيرون في طرحها اليوم. وشهدت الندوة حدثاً استثنائياً تمثل في خطوة المجلس الأعلى للثقافة بإعادة طبع بعض مؤلفات الطهطاوي ومنها "المرشد الأمين" و"مناهج الألباب" إضافة إلى طبع ترجمته ل"مواقع الأفلاك في وقائع تليماك" التي صدرت عن دار الكتب والوثائق المصرية. أما الملاحظات التي يمكن تسجيلها فتتعلق بغياب الجمهور عن الجلسات باستثناء الجلسة الافتتاحية التي شهدت حضورًا لافتاً. وأما الغياب الذي كانت له دلالاته الواضحة فيتعلق بافتقاد الندوة الباحثين والمفكرين المحسوبين على التيار الإسلامي سواء في فصائله المتشددة في موقفها من رفاعة أو المستنيرة والتي تحمست قبل سنوات لمشروعه في التحديث. أقول هذا وقد لاحظت غياب الكثر منهم وخصوصاً الباحث محمد عمارة، ولم أفهم هل هذا موقف تتبناه الجهة المنظمة من عمارة أم أنه موقف يتبناه هو منها. وأياً يكن الأمر فلا مبرر لغيابه هو الذي قام قبل ربع قرن تقريباً بتحقيق الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي وإصدارها كاملة.