كان ضحى يوم عطلة والشمس تملأ سماء بغداد الزرقاء وتنشر أشعتها على أشجار حديقتنا فتعكس تنويعات متدرجة من اللون الأخضر والأصفر والأحمر. كنت في الصالة، جالساً أتملى هذا المنظر، حين سمعت إبني "سامي" يهتف من الغرفة المجاورة: - اسمع، بابا؟ هل تسمعني؟ لدي فكرة جميلة. هل تسمعني؟ كنا بمفردنا في الدار، فقد خرجت زوجتي للتسوق منذ بعض الوقت، وكان "سامي" في غرفته المجاورة يتظاهر بالانكباب على دروسه. أجبته بارتخاء: - أسمعك. لماذا هذا الالحاح؟ تعال هنا وتكلم. ظهر في إطار الباب حالاً، مبتسماً، يحمل كراساً وقلماً: - فكرة حلوة والله، بابا. واقترب مني. كنتُ جالساً على أريكة طويلة، أتمتع بسكون العالم من حولي وبالبهجة التي تمنحني إياها شمس الربيع هذه وأشجار الحديقة وألوانها. قال سامي: - أنظر يا أبي، ما رأيك أن نكتب قصة... أنت وأنا؟ ها؟ فكرة عظيمة، أليس كذلك؟ قل لي. - لا مانع. - صحيح؟ قل لي بابا... صحيح؟ - لا تكن ثقيلاً يا سامي، قلت لك موافق. - الله، الله. اسمع بابا. ثم اتخذ له مكاناً على جانب الأريكة وفتح الكراس ممسكاً بالقلم ومتهيئاً للكتابة: - هل أبدأ أنا أم لديك فكرة نبدأ بها؟ كان في الثانية عشرة من عمره، ذكياً وحساساً، وكنت أخشى أن تجلب له هذه الصفات شقاء من نوع خاص. - ابدأ أنت ما دمت صاحب المبادرة. - لدي فكرة أظنها عظيمة وجديدة، ولكنني لا أعرف كيف أكتبها. قل لي أنت كيف. لم نكن، أنا وهو وأمه زوجتي، عائلة شقية. كانت سعادتنا من النوع العادي والمألوف في بغداد وفي جونا الاجتماعي المتواضع. - كيف أشرح لك الطريقة وأنا لا أعرف فكرتك؟ هيا... قل لي الآن، كيف يمكن ذلك؟ - هذا صحيح يا أبي. العفو. فكرتي هي أن أكتب عن زميلي في المدرسة أحمد، ابن جيراننا هؤلاء. - أحمد بن أم أحمد؟ توترت أعصابي رغماً عني، حين جاء ذكر أحمد وأم أحمد. - نعم، بابا. طبعاً، ومن غيره؟ - دعنا نسمع فكرتك العظيمة إذن. هيا. كانت تسكن الدار الملاصقة لدارنا، أرملة في الخامسة والثلاثين، استشهد زوجها قبل سنتين، وتدعى "بهيجة" وصبيّها أحمد هذا زميل ابني في المدرسة. - فكرتي بسيطة جداً يا أبي، حكاها لي أحمد بنفسه. انه لا يحب أمه... يكرهها. صُدمت، فقاطعته: - يكرهها؟ يكره أمه؟ - كلا، لا أقصد هذا. أترى... أنا لا أحسن التعبير. هو لم يعد يحبها، هذا ما قاله لي. كانت، قبل استشهاد زوجها، تبدو رزينة رزانة مزيفة، فهي تختار ملابسها بشكل خاص بحيث تبالغ في إبراز محاسن جسمها المملوء. وحينما كانت العائلتان المتجاورتان تلتقيان في بعض المناسبات، لم يكن يعرف تفسيراً لنظراتها المستطيلة المستلغزة اليه، ولا ما توحيه من أمور غامضة. - ما هذا الهذر يا سامي؟ لا يحبها ولا يكرهها؟ أية حال غريبة! - لا تزعل يا أبي. أنا أيضاً لا أدري. أنا أريد أن نتشارك في كتابة القصة... أنت وأنا فقط، هل تريد؟ - أريد طبعاً. لماذا لا أريد؟ ولكن، علينا أن نكتب أموراً يفهمها القرّاء. - القراء؟! هل سيقرأ لنا أحد ما نكتب؟ - لِمَ لا؟ لماذا نتعب ونكتب قصة إذا لم يقرأها أحد؟ - صحيح، صحيح والله، بابا. واستشهد زوجها، وقام هو بكل الواجبات التي تفرضها الجيرة عليه بتشجيع من زوجته، إلا أنه لم يكن مرتاحاً من صميم قلبه. تبدلت مواقفها ونظراتها اليه مع مرور الأيام. صارت تحدثه، حين ينفردا، بلغة لا تقبل التأويل وبلهجة فيها الكثير من الغنج. لم تكن جميلة بالمعنى المألوف، لكن جسدها، بدا له على الدوام، مخلوقاً لأمور يعرفها الرجال. - لنقل إذن... كان أحمد في وضع لا يحمل الود فيه لأمه. - جيد. جيد جداً. ألم أقل لك يا أبي إننا، أنا وأنت، نستطيع أن نكتب أجمل قصة؟ - لا تتعجل. ماذا حدث بعد ذلك؟ نريد حدثاً. - حاضر. الآن، عندنا أحمد كما قلت في وضع... كيف قلت؟ لا يحمل التودد... - الود... لا يحمل الود لأمه. - بالضبط... لا يحمل الود لأمه. هكذا الكتابة المضبوطة. صار لا يطيعها ولا يهتم بها أبداً. لا يأكل ولا يشرب ولا ينظف أسنانه. بخاصة اذا كانت تراقبه. جيد؟ - جيد. استمر. - سأستمر. هل تعلم يا أبي انه مثل طفل صغير... - ماذا؟ هو طفل صغير بالطبع... ماذا تقصد؟ - أعني... لا أدري. جاءني قبل أيام، تصور، يقول لي وهو يوشك على البكاء... "أريد بابا، سامي... أريد بابا" كأني أستطيع أن أردّ له أباه! وأخذ يعاونها في شؤون البيت أحياناً. أتعبته هذه المساعدات المجانية. تختار الوقت الذي يعود فيه من الدائرة ليرتاح، فترفع رأسها فوق الجدار الفاصل بين داريهما وتنادي أم سامي. وكانت، على الدوام، متزينة شبه متبرجة، لا تراعي واجب الحشمة حين يحمل نفسه ليلبي طلبها بتوضيب قنينة الغاز، فلا تني تحتك به بحجة المساعدة، وهي تتضاحك باستمرار. - يبدو لي يا سامي أن صاحبك أحمد هذا طفل مريض نفسياً. - هذا جيد يا أبي، ستكون قصتنا نفسية جداً. موافق؟ - نعم. هل كتبت كل هذا؟ - كلا. أنا مشغول بكتابة الملاحظات الأاسسية. - ومتى سنكتب القصة إن شاء الله؟ - قل لي أنت متى يا أبي وسنبدأ حالاً. - حين تفرغ من دروسك طبعاً. - طبعاً. هذا أمر محسوم. - أكمل إذن. وتراها ترحب به باشتياق وهو يدخل الدار مبسملاً ومتظاهراً باحترامها، وتبقى ملتصقة به أو تكاد، وشذا عطرها يملأ منخريه وهو يقوم بعمله الشاق ذاك. ثم إنها، بين الحين والآخر، تذهب وتجيء، سائرة بحركات مثيرة تربكه وتتعبه كثيراً. - عندي فكرة، بابا. جاءتني الآن. نركّز على حالة أحمد النفسية طويلاً... نكتب عشر صفحات، ما قولك؟ - تريد أن تقتل القارئ؟! - ها! أنقدر حقاً؟ بعشر صفحات فقط؟! - بأقل من ذلك أحياناً. - آه... أنت تمزح معي يا أبي. - لنهتم بقصتك إذن... قصة أحمد. ماذا جرى له أيضاً؟ حدثني. - جرى له أنه بقي لا يحب أمه ويعاكسها ويرفض كل ما تطلب منه. صار لا أدري كيف أصفه... ساعدني يا أبي. - قل لي ماذا حدث له أولاً؟ - لا أدري بالتحديد. - كيف ستكمل قصتك؟ - ساعدني يا أبي. قلتُ لك ساعدني منذ البداية. أنا لا أقدر على إنهائها بمفردي. - حسناً... حسناً، لنقل انه صار مجنوناً. - لا، بابا، لا، أرجوك. لم يصر مجنوناً، صار مختلفاً فحسب. - كلنا مختلف عن بعضنا، ما الفرق؟ - نعم، صحيح، ولكننا لسنا مجانين. مع ذلك، أتذكر، قال لي مرة... - الآن... لم تقل إنه حدثك عن أمر جديد. - بل حدثني، أتذكر انه قال لي انه رأى شيئاً. كانت أمسية عجيبة. لم يكن في الدار أحد غيري حين أطلت برأسها من وراء الجدار وأخذت ترسل نداءاتها المتتالية. كان سامي وأمه قد خرجا لقضاء شأن ما لا أتذكره، وكانت أشعة الشمس الحمراء تنير وجهها الملون وتزيد من التماعات عينيها. سألتها عما تريد، فتضاحكت بخفة ولم تجب. اقتربتُ من الجدار بحذر. سألتني عن أم سامي فأخبرتها، فرجتني، شبه متوسلة، أن أساعدها على تشغيل ماكنة الغسيل التي توقفت فجأة، ثم أضافت أن ابنها احمد مريض منذ يوم أمس وتخشى أن تزعجه إن هي أساءت تشغيل الماكنة. - ما هذا الشيء الذي رآه؟ - لم يقل لي. هذه ورطة فنية، أليس كذلك يا أبي؟ - طبعاً. يجب أن نخترع حادثة ونملأ الفراغ. لم يدر بخلدي أمر سيئ تجاهها حين رأيتها واقفة تنتظرني وسط شرفة دارها الأمامية. كانت متزينة كعادتها، ترتدي فستاناً ضيقاً يهصر جسدها ويبرز نهديها بشكل مبالغ فيه. لم يكن في الأمر جديد. كنت أراها هكذا أكثر الأحيان، إلا انني، هذه المرة، وقعتُ فريسة رغبة عنيفة وشبه جنونية لتملكها. سيطرت عليّ، فجأة، فكرة واحدة هي انها تريد مني أن أفعل شيئاً وأن عليَّ أن أفعله، وكنت أحس بحرارة تتملكني وتدفعني نحوها. - وكيف نعمل ذلك؟ - نتخيل. دعنا نتخيل ما رأى أحمد السخيف هذا؟ - لماذا سخيف يا أبي؟ - لا أدري. ربما، لأنه لم يقل لك شيئاً عما رأى. - صحيح. انه لم يقل لي. وقادته الى غرفة أخرى حيث لا توجد ماكنة الغسيل، ولم يسألها عن السبب. كانا متفقين ضمنياً، يجمعهما خيال من نوع خاص. لم يفكر هل يصح هذا الأمر الذي ينويان الاقدام عليه، أم لا يصح، وكان منساقاً معها. أذهلته جرأتها واندفاعها الوحشي، وأحس بنفسه كأن أفعى ضخمة تبتلعه بشراهة. كانا يلهثان وهو يحس بلعابهما المختلط يسيل من طرف فمه الملتصق بشفتيها، حين رآه. بدا له وجه الطفل أصفر خلال فتحة الباب الموارب، وكانت عيناه مرعوبتين مدهوشتين. - ألم تلح عليه بالسؤال يا سامي؟ - كلا. لماذا ألح عليه يا أبي؟ هو لا يريد أن يتكلم، فلنتخيل إذن ما كان رآه، كما قلت. هيا نحفز خيالنا يا أبي، لعلنا نصل الى معرفة ما رآه. - لا أظننا نستطيع ذلك. - آه... الآن. يا أبي. لا تحكِ هكذا. لمذا تقول لا نستطيع والقصة أوشكت أن تنتهي؟ - لأن. الخيال يا بني، يعجز احياناً عن الإمساك بواقع الحياة العجيب هذا. دمشق - شباط 2003