في قراءة التطورات الاخيرة على ساحة الصراع العربي - الاسرائيلي لا يبدو من الممكن الفصل بين قرار شارون بالفصل او الانسحاب الأحادي الجانب وقبله بناء الجدار، وبين قراره الجديد بالانسحاب من قطاع غزة بعد تفكيك معظم المستوطنات. فقد جاءت جميعاً نتاج معادلة واحدة عنوانها الفشل الامني والسياسي لشارون بعد اكثر من ثلاث سنوات على تسلمه السلطة وهو الذي جاء بعنوان معاكس هو "شارون سيجلب الامن والسلام معاً". من وعد المئة يوم لإنهاء الانتفاضة وحتى دخولها العام الرابع في عهده "الميمون" عجز شارون عن شطب المقاومة، كما عجز عن اخضاع الفلسطينيين وفرض الاستسلام عليهم، بما في ذلك توقيع الصك الذي اعلن عنه منذ البداية ممثلاً في موافقتهم على ما اسماه "الحل الانتقالي البعيد المدى" الذي يقوم على انشاء دولة فلسطينية موقتة على 42 في المئة من الضفة الغربية ومعظم قطاع غزة، مقابل تعهد الفلسطينيين بمكافحة الارهاب واثبات حسن النيات خلال مرحلة انتقالية قد تزيد عن عشر سنين، فيما سيكون على العرب خلالها ان يحسنوا علاقاتهم مع الدولة العبرية لكي تتأكد من حسن جوارهم، ما يمكن ان يدفعهم بعد ذلك الى التفكير في شكل الحل النهائي. عندما فشل شارون في مشروعه بشقيه الامني والسياسي، فضلا عن العجز عن جلب مليون مهاجر جديد، كما وعد، بل دفع بعض المواطنين الى الهجرة العكسية، وعندما ضاعت احلام المراهنة على حرب العراق وتساقط "حجارة الدومينو" العربية بعد بغداد ولم يعد ثمة ما يقنع الشارع الاسرائيلي بانتظاره، لم يجد الرجل سوى البحث عن مسار جديد يبعد عن ناظريه شبح نهاية سياسية صعبة. لم يكن ذلك هو كل شيء، فالقرارات التي تمس مصير الدولة العبرية لم تكن يوماً حكراً على رئيس الوزراء، إذ لا بد ان تحظى دائما بموافقة الغالبية من النخبة العسكرية والامنية. وهنا يمكن القول ان قصة الفضائح التي خرجت لشارون من الادراج ووثيقة جنيف التي حظيت بدعم دولي ويهودي كبير، ومجمل اشكال التمرد عليه في الداخل، انما كانت تعبيرا عن ضجر النخبة اياها من عبث شارون بمصير الدولة باستمرار المراهنة على المستحيل، ممثلاً في اخضارع الفلسطينيين وفرض الاستسلام عليهم. على هذا الصعيد يكشف المحلل الاسرائيلي المعروف سيفر بلوتسكر في مقال له بصحيفة "يديعوت احرونوت" 8/2/2004 معلومة مهمة تقول ان مصدر فكرة فك الارتباط عن غزة لم يأت من رأس شارون، بل من جهاز الامن. ويضيف المحلل الاسرائيلي: "وزير الدفاع، وبقدر لا بأس به ايضاً معظم القيادة العليا في الجيش الاسرائيلي، رأوا في الجمود القائم وضعاً غير مستقر، ضاراً، بل هو خطر جداً على اسرائيل في الاساس. واعتقدوا ان على اسرائيل ان تبادر في ظل الشروط الاكثر راحة لها منذ اندلاع الانتفاضة الى خطة استراتيجية بعيدة الاثر، واتخاذ خطوة دراماتيكية تدخل المحيط العربي والفلسطيني في هزة". اما مواقف بعض الرموز الامنية المناهضة للخطة فلم تكن تتجاوز مسألة الافراج، فضلاً عن كونها لوناً من الوان المزايدة السياسية. في المقابل، كانت النخبة الإسرائيلية واليهودية في العالم تدرك تلك الأبعاد الخطيرة لمسألة الجدار، وما تنطوي عليه من إعادة اليهود لمرحلة "الجيتو" وشطب أحلام التمدد والهيمنة على منطقة الشرق الأوسط. وبذلك التقت مشاعر النخبة السياسية والثقافية وهواجس المؤسسة العسكرية والأمنية مع مشاعر الشارع المطحون باستمرار المقاومة وتراجع الأوضاع الاقتصادية، حيث عبر حوالى 70 في المئة منه عن الرضا عن خطة اخلاء غزة. حدث ذلك على رغم ما تنطوي عليه الخطة من جرح لمشاعر الكبرياء الوطني من حيث كونها اعترافاً بالهزيمة أمام الإرهاب، وهو التحليل الذي لم يعلن عنه غلاة اليمين أو كتابه في الصحافة، بل اعترف به أهل اليسار والوسط ممن أكدوا على أن ما جرى كان تراجعاً أمام الإرهاب، من دون أن يرفضوه. فهذا المحلل المعروف ألوف بن يتساءل في "هآرتس" قائلاً: "هل خسرت إسرائيل المواجهة؟ هل تحطمت إرادة القتال؟ أم لعل الأهداف التي وضعت كانت مبالغة؟". أما زملاؤه الآخرون فتحدثوا عن "الهزة الأرضية" التي وقعت على يد شارون، مذكرين بأقواله القديمة التي تربط مستوطنة "نتساريم" بتل أبيب. وفي كل الأحوال فإن المسألة الأساسية التي تتبدى من خلال ما جرى هي الاعتراف بعبثية المراهنة على اخضاع الفلسطينيين، ليس من قبل شارون فحسب، وإنما من قبل معظم النخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، باستثناءات محدودة تمثلها جماعات الاستيطان واليمين المتطرف التي احترفت المزايدة حين تكون بلا أفق ولا جدوى، اللهم إلا من زاوية رفع السعر حين يكون هناك ثمن للبدائل المطروحة، كما هي الحال بالنسبة إلىئ المستوطنين. أما دلالاتها بالنسبة إلى شارون فهي الأسوأ على الإطلاق، فالحل الذي كان ينبغي أن يفرضه على الفلسطينيين والعرب بسطوة القوة ومن خلال مقابل مذل، ها هو يقدمه تحت وطأة الفشل الأمني والسياسي ومن دون مقابل، حتى لو حاول بعد ذلك الاستدراك والحديث عن ثمن مقابل حفظاً لماء الوجه. أسئلة كثيرة تندلع بعد ذلك في سياق قراءة ما جرى، أكان بالنسبة إلى الطرف الإسرائيلي، أم الطرف الفلسطيني بشقيه: الأول الواثق بقدرة المقاومة على فرض التراجع على العدو، والثاني المتفاجئ بما جرى وصاحب القرار الأهم في سياق رسم الخطوات التالية، ممثلاً في السلطة بقيادة فتح وعلى رأسها ياسر عرفات. بالنسبة إلى الطرف الإسرائيلي، طرحت أسئلة كثيرة رددها غير واحد من كبار المحللين الإسرائيليين، منهم ألوف بن وزئيف شيف، فضلاً عن دوائر أمنية وسياسية مختلفة. وقد تعلق بعضها برد فعل السلطة ومدى موافقة الولاياتالمتحدة على المشروع إذا ما ارتبط باستمرار بناء الجدار مع بعض التحسينات على مساره، في ما يتعلق البعض الآخر برد فعل قوى المقاومة واحتمال استمرارها في العمل من خلال اطلاق الصواريخ من غزة، ومن ثم طريقة الرد عليها، إلى جانب إمكانات الاستثمار في "فريق الاعتدال" الفلسطيني، وعلى رأسه محمود عباس ومحمد دحلان، بوصفه القادر على الدخول في تفاصيل اللعبة على نحو أفضل بالمبادرة إلى لجم قوى "التطرف". أما حكاية تحوّل غزة إلى "حماس لاند" فلا تبدو ذات قيمة على رغم ترديدها من قبل البعض، فالحركة التي تدرك جيداً المعادلة العربية والاقليمية والدولية، وكذلك المحلية، لن تكون في وارد التورط في لعبة كهذه، وفي "جيتو" يتحكم الإسرائيليون بكل مفاصله. على الجانب الفلسطيني، هناك رؤية السلطة للتوجه الإسرائيلي، والتي تبدو مرتبكة إلى حد بعيد، سيما وهي تعتمد على مرجعية عربية أكثر ارتباكاً في تعاطيها مع الشأن الفلسطيني. من الواضح ان السلطة لم ولن تمانع في الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة، لكن قبولها بما سيترتب عليه في ما يخص الضفة الغربية نقل مستوطني غزة اليها واستمرار بناء الجدار يبدو مستحيلاً، فيما يراهن الاسرائيليون على اقناع واشنطن بقبول المشروع والتبرع بتسويقه دولياً، وهو أمر لا يبدو سهل المنال، أقله في المرحلة الراهنة التي يتورط الأميركان فيها في العراق وصولاً الى انتخابات الرئاسة الأميركية. يراهن شارون على أن تعديلاً في مسار الجدار قد يجعل تسويق مشروع الانسحاب الأحادي الجانب برمته ممكناً، ما يجعل بالامكان خلق فضاء أوروبي وعربي له، لكن قيادة السلطة ومرجعيتها العربية على هزال مواقفها لن تقبلا بذلك، وان بدا أن تراجعاً على صعيد العلاقة مع قوى المقاومة تحت عنوان "مكافحة الارهاب" يبقى وارداً، وهو ما تمكن قراءته من خلال عودة محمد دحلان الجديدة إلى الواجهة. هناك أمل بأن يستمر التحرك الفلسطيني العربي، رسمياً وشعبياً، في مواجهة الجدار. أما الأهم فهو الاصرار على أن يبقى الانسحاب من غزة من دون مقابل ومن دون أية اتفاقات جانبية، الأمر الذي قد يدفع باتجاه اسقاط شارون في المرحلة المقبلة، وتكريس فكرة أن قبول ما هو أقل مما يسمى قرارات الشرعية الدولية لن يكون متاحاً بحال من الأحوال. أما الخيار الانقلابي الأقوى ممثلاً في اعلان حل السلطة وتوريط الاحتلال سياسياً وأمنياً واقتصادياً وشطب لعبة الجدار من أساسها، فلا يبدو وارداً، لا من قبل قيادة السلطة بقرار ذاتي ولا من قبل مرجعيتها العربية. في كل الأحوال لا بد لمواجهة الموقف على نحو معقول من استمرار المقاومة. والحال ان العجز وحده هو الذي يمكن أن يفضي الى القناعة بأن خطوات شارون، من الجدار الى الانسحاب الأحادي الجانب، الى تفكيك مستوطنات غزة ستعني انهاء المقاومة، ليس لأن ثلاث مستوطنات ستبقى، ومعها المعبر باتجاه مصر، فضلاً عن وجود أهل القدس داخل الجدار، وربما مستوطنات أخرى في الخليل، بل لأن المقاومة لن تعدم القدرة على ايجاد ثغرات للدخول الى المناطق الأخرى. فيما يبقى السؤال مركزاً حول ما إذا كان بامكان المشروع الصهيوني أن يقبل بنهاية كهذه يحشر نفسه من خلالها في الأراضي المحتلة عام 48، بمشاركة أكثر من مليون فلسطيني تزداد أعدادهم بشكل سريع، سيما وأن حكاية نقل قراهم أو بعضها الى مناطق السلطة لا تبدو ممكنة من دون اتفاق نهائي مع السلطة. لذلك كله لا بد من اعادة التذكير بأن جوهر ما جرى هو التأكيد على قدرة المقاومة على الانجاز مقابل عجز الاحتلال عن فرض املاءاته على شعب عظيم له كل تلك القدرة الرائعة على التحدي، ما يعني ان مزيداً من الانحياز الى مسار المقاومة سيكون قادراً على فرض تراجعات أخرى على الاحتلال. * كاتب من الأردن.