كان أغلب الرحلات إلى أوروبا متجهاً إلى فرنسا وعاصمتها باريس بالدرجة الأولى، وذلك إلى الدرجة التي جعلت من الافتتان بباريس موضوعاً للكتاب الذي أصدره أحمد الصاوي محمد في القاهرة سنة 1933 بعنوان "باريس". وهو كتاب يحتشد بالشهادات المكتوبة في فضائل باريس بأقلام أدباء العالم الكبار، جنباً إلى جنب المؤلفين العرب الذين زاروا باريس وتحدثوا عن مباهجها وتميّزها بالقياس إلى غيرها من المدن الأوروبية، وذلك في تتابع يشمل - إلى جانب رفاعة الطهطاوي - وليّ الدين يكن ومحجوب ثابت وأحمد شوقي وإميل زيدان ومحمود عزمي وطه حسين ومحمد تيمور ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم وفكري أباظة وأحمد ضيف وداود بركات ومنصور فهمي وزكي مبارك وعشرات غيرهم من الأجيال المتتابعة التي جعلت من باريس "فترينة الدنيا" كما وصفها توفيق الحكيم و"مدينة النور" و"مركز الحضارة" كما وصفها محبّوها الذين كتبوا عنها مادة ضخمة من الرحلات والمقالات الوصفية والصور القلمية والرسائل والقصائد التي دفعت الدكتور خليل الشيخ إلى إعداد دراسته المتميزة التي أصدرها كتاباً بعنوان: "باريس في الأدب العربي". وبالطبع، لم يمنع الافتتان بباريس من الكتابة عن "لندرة" المنافس الذائع، وذلك إلى الدرجة التي دفعت أحمد فارس الشدياق إلى تفضيل لندرة على باريز. ولكن ظل هذا التفضيل من قبيل الاستثناء، وظلّت "باريز" المرآة التي يجتلي فيها وعي الأنا القومي واقع تخلّفه من ناحية، ويقرأ فيها أوصاف التقدم التي يسعى وراءها من ناحية موازية، ويجد في حلم إعادة إنتاجها في العواصم العربية هدفاً عزيزاً لا بد من تحقيقه. ومن الطريف أن تعكس متغيرات باريس - في كتب الرحلات أو سردياتها المتتابعة - المتغيرات العمرانية التي طرأت على هذه المدينة الغاوية. وفي الوقت نفسه، تعكس نقد اللاحق للسابق من المرتحلين العرب، وذلك على نحو ما فعل علي مبارك باشا 1823 - 1893 الذي ذهب إلى "باريز" بعد حوالى ربع قرن من زيارة الطهطاوي إليها، وتمتعت عيناه بنتائج الثورة المعمارية التي قادها البارون جورج يوجين هاوسمان G. E. Haussman 1809 - 1891 التي لم يرها الطهطاوي، فلم ير من أسرار "باريز" ما أدركه خلفه الذي يعد تلميذاً له، والذي تنقَّل في كتابه "علم الدين" ما بين لندرة وباريز، وأتاح له التنقل مع الوعي بالمتغيرات الأحدث أن ينقد وصف أستاذه لباريز، وذلك عندما جعل "الخواجا" يتطرق إلى ما ذكره رفاعة من أوصاف باريس على النحو التالي: "رأيته قد أكثر فيها من مدح باريز وأهلها، وأطنب في وصف نسائها ورجالها، وطاف حول الدن إلا أنه لم يدندن، ورتع حول ذاك الحمى وحام، وما رفع عن وجه ليلى اللثام، وأظنه لم يأتها من أبوابها، ولا كشف له عند وصف لها عن نقابها، ومع ذلك فجميع ما ذكره ورآه قد تغيَّر الآن، ومضى في وقته إلى الآن نحو ثلاثين سنة. وفي هذه المدة تقدمت العلوم والصنائع تقدماً زائداً، وظهر في أعمال الخلق النتائج المفيدة. فصلح بذلك شأنها واتسعت دائرة ثروتها". والفارق بين ما كتبه الطهطاوي عن باريس وما كتبه علي مبارك عنها هو الفارق في تحول الوعي بالموضوع من ناحية، وتحول الموضوع نفسه من ناحية مقابلة، فعلي مبارك الأفندي نموذج لوعي أحدث، تولَّد مع جيل الأفندية الذي جاء بعد جيل الشيخ رفاعة ومضى بعده إلى ما هو أبعد في مدى الوعي العمراني والحضاري، وباريس التي شاهدها علي مبارك أفندي ليست باريس التي شاهدها الشيخ رفاعة الطهطاوي، وإنما باريس البارون هاوسمان الذي جعل منها تاج العمارة الطالع في المدن الأوروبية. وقد سبق لي أن أوضحت في دراسة سابقة أن الخديو إسماعيل أرسل علي مبارك - وكيل وزارة المعارف العمومية وناظر القناطر الخيرية في ذلك الوقت - إلى باريس في مهمة مالية لحساب الحكومة المصرية وزيارة المعرض العالمي، وأن علي مبارك الذي سبق له أن درس في فرنسا قضى شهراً ونصف الشهر بمدينة باريس، في شتاء 1867- 1868، يدرس النظم الجديدة في مجال التعليم والصرف الصحي. وهناك، عاين المباني والكتب والمقررات الدراسية للمدارس الجديدة، وسار مع غيره من الزائرين عبر الأنفاق الضخمة لشبكة الصرف الصحي التي أقيمت تحت شوارع باريس الجديدة. ولم يفته، بالقطع، التمعّن في التخطيط المعماري الجديد لمدينة باريس وتنظيم "بوليفاراتها" التي أخذت تبهر الأنظار، وتغدو نموذجاً لشوارع المدينة العصرية. وأتخيل أن علي مبارك لم يقصر في التمعن أو التحديق، على الأقل بوصفه مهندساً، ومسؤولاً بارزاً عن التعليم، ومرشحاً محتملاً لتولّي مهمة تخطيط القاهرة الحديثة. واستوعب علي مبارك، في هذه الزيارة، أسرار الإنجاز المعماري الكبير للبارون جورج يوجين هاوسمان G. E. Haussman 1809-1891 متصرف عموم "السين" الذي انشغل، منذ أواخر الخمسينات وطوال الستينات من القرن التاسع عشر، في تحديث مدينة باريس، ونقلها من عمارة القرون الوسطى إلى عمارة العصر الحديث التي تتعامد على شبكة واسعة من الشوارع العريضة البوليفارات التي عُرف بها هاوسمان، والتي أطلق اسمه على شارع منها بوليفار هاوسمان تكريماً لما فعل. وقد أنشأ هاوسمان - إلى جانب الشارع العريض البوليفار Boulevard - شبكة مياه الشرب ونظام الصرف الصحي المجاري. وقام بتخطيط وتنظيم حدائق غابة بولون ومتنزهات فانسان واللوكسمبورغ. وأقام سوق الخضار وأوبرا باريس وغيرهما من معالم العمران الذي جعل من مدينة باريس نموذجاً يحتذى في العمارة الجديدة والتخطيط الحديث. وكانت "البوليفارات" التي شقَّها هاوسمان في قلب باريس، مسلحاً بفرمان ملكي من نابليون الثالث، استهلالاً ثورياً للحياة المدنية للمدينة الحديثة في القرن التاسع عشر، فقد أدّت هذه البوليفارات - في ما يقول مارشال بيرمان Marshal Berman في كتابه عن "تجربة الحداثة" المنشور في نيويورك سنة 1982 - إلى زيادة الانسياب والتدفق عبر مركز المدينة على نحو لم يحدث من قبل، وساعدت على الانتقال مباشرة من أقصى المدينة إلى أقصاها، كما أتاحت متنفساً وسط كثافة العتمة والاكتظاظ البشري، وأعانت على التوسع المتزايد للتجارة المحلية، الأمر الذي خفَّف من الأعباء المالية التي ترتَّبت على التدمير الكبير للمنازل والطرق القديمة التي كان لا بد من إزالتها لشق البوليفارات، فضلاً عن أعباء تكاليف التعويضات والبناء الجديد. ولم تكن "البوليفارات" عوناً على الازدهار الاقتصادي والحراك الاجتماعي فحسب، وإنما كانت وسيلة للانضباط في الوقت نفسه، فمن شأنها أن تفضي إلى خلق ممرات طويلة، عريضة، تستطيع الوحدات العسكرية وبطاريات المدفعية أن تتحرك فيها بسهولة ويسر لتدمير أية متاريس مستقبلية أو أي حركات تمرد أو عصيان شعبي. ولذلك كانت هذه "البوليفارات" مكوِّناً أساسياً من مكونات منظومة شاملة لتخطيط المدينة الحديثة التي تضم أسواقاً مركزية، وجسوراً، وشبكات صرف صحي، وشبكات مياه شرب، وأوبرا ومراكز ثقافية موازية، ومجموعة كبيرة من الحدائق المتسعة. بعبارة أخرى، منظومة متكاملة تفتح المدينة كلها، للمرة الأولى في تاريخها، أمام جميع أهلها وسكانها، وذلك على نحو يؤدى إلى أن تغدو المدينة فضاء فيزيائياً وإنسانياً متحداً، يسهل فيه الانتقال داخل كل حي، وبين الأحياء داخل المدينة، بل بين المدينة وغيرها بواسطة ما أصبح نواة "الأوتوستراد" الأحدث. ولم يخل هذا الفضاء من الشوارع الفرعية المزودة بالمقاعد والمظللة بالأشجار، ولا من جُزُر المشاة التي لا تعيق حركة المرور، وتفتح ممرات بديلة إضافية للفرجة والنزهة. أضف إلى ذلك تصميم الميادين الكبيرة عند نهاية كل بوليفار، حيث النصب التذكارية والتماثيل التي تجعل كل شارع يقود إلى رمز من رموز القمم الخالدة للمدينة. هذه المواصفات، مجتمعة، جعلت من باريس النصف الثاني من ستينات القرن التاسع عشر مشهداً فريداً في إثارته، مهرجاناً لعينَي وأحاسيس علي مبارك الذي رأى من أوجه المدينة الجديدة و"بوليفاراتها" ما لم يره سلفه رفاعة الطهطاوي الذي أنهى بعثته قبل ثورة "هاوسمان" المعمارية بسنوات عدة. ولم يكن الفارق بين ما رآه الطهطاوي وما رآه علي مبارك راجعاً إلى الاختلاف الحادث في الموضوع المشاهد، وهو باريس في عهدها القديم وعهدها الجديد، وإنما كان - إضافة إلى ذلك - اختلافاً في وعي المُدْرِك بكسر الراء وتكوينه الثقافي: أقصد - أولاً - إلى الفارق بين رفاعة الطهطاوي الشيخ المعمم الذي تلقَّى تعليماً دينياً خالصاً، وسافر إلى فرنسا بوصفه إماماً يؤمّ أعضاء البعثة المصرية للصلاة في باريس، وعلي طه الأفندي المطربش الذي تلقَّى تعليماً مدنياً عسكرياً، واستكمل تعليمه المدني الذي جعله متصلاً بفنون الهندسة والعمارة، الأمر الذي جعله جديراً بتولّي وزارة الأشغال العمومية في عهد إسماعيل باشا، زميله القديم في البعثة إلى باريس. ويعني ذلك أن وعي علي مبارك الأفندي يختلف عن وعي رفاعة الشيخ من ناحية، ونظرة كل منهما إلى باريس متأثرة بالتكوين الثقافي المغاير من ناحية مقابلة، فضلاً عن أن عيني علي مبارك كانتا أكثر تحديقاً في مشاهد العمران ومنظومة التخطيط الجديدة لباريس، وذلك لأسباب أهمها طبيعة عمل علي مبارك المرتبطة بالإفادة من تخطيط باريس الجديدة في تخطيط قاهرة إسماعيل الواعدة. وأتصور أن علي مبارك - في ما تؤكد أعماله في وزارة الأشغال العمومية - تمثّل في شكل واعٍ المنظومة الشاملة لتخطيط "باريس - هوسمان" الذي تجمع فيه المدينة ما بين "المدرسة المدنية" الحديثة و"البوليفار" و"دار الأوبرا" و"الحديقة الكبيرة" و"المتحف" و"أقسام الشرطة". ودليل ذلك ما أحدثه علي مبارك من تغييرات عمرانية في القاهرة القديمة، بدأت بإدخال المياه الصحية إلى المنازل، وإنارة الشوارع، وتوسيع الشوارع القائمة، وشق شوارع جديدة، والتخطيط لأحياء جديدة، جنباً إلى جنب الحدائق التي سعى إلى أن تكون محاكاة للحدائق الفرنسية، والميادين التي تتوسطها تماثيل، والجسور، وغيرها من علامات التخطيط الذي لم يغفل "الأوبرا" و"المتحف". والمؤكد أن الخديو إسماعيل - زميل علي مبارك في "بعثة الأنجال" - كان مؤمناً بقدرة زميله القديم على الإنجاز، وواعياً بمقدرته على تحقيق الحلم الذي ينقل باريس إلى شاطئ النيل، فقام بتعيينه ناظراً للمعارف وناظراً للأشغال العمومية بعد عودته من المهمّة الرسمية التي كلَّفه بها في باريس، كي يستوعب النموذج المعماري الذي سيعمل على محاكاته وإعادة إنتاجه. وكان ذلك سنة 1868، السنة التي نال فيها علي مبارك رتبة الميرميران، والتي كانت بداية عقد كامل قضاه منشغلاً بتخطيط مدينة القاهرة الحديثة، مستهلاً بناء عماراتها التي لا يزال بعضها شاهداً على ما فعل، جنباً إلى جنب شق "بوليفاراتها" التي استهلها بشارع محمد علي وميدانه، وشارع عبدالعزيز، وشارع عابدين، وشارع الفجالة الجديد، وشارع كلوت بك. وكانت هذه الشوارع مفضية إلى الأحياء الجديدة، ابتداء من حي باب اللوق، مروراً بحي عابدين، وانتهاء بحي الإسماعيلية الذي كان، منَ قبْلُ، أراضي خربة سبخة تحتوي على كثبان من الأتربة وبرك المياه، فخطَّطها علي مبارك وأنشأ فيها الشوارع والحارات على خطوط مستقيمة، وأغلبها متقاطع على زوايا قائمة. ودُكَّتْ الشوارع والحارات بالحجر الدقشوم ونُظمت على جوانبها الأرصفة، ومُدَّتْ في أرضها أنابيب المياه، وأُقيمت فيها أعمدة المصابيح لإنارتها بغاز الاستصباح، فأصبح الحي كما يقول علي مبارك نفسه - في خططه التوفيقية - من أبهج أخطاط القاهرة التي سرعان ما سكنها الأمراء والأعيان. ولم يقتصر الأمر بعلي مبارك - المسلَّح بفرمانات من الخديو إسماعيل - على شقّ البوليفارات والميادين والأحياء الجديدة، فضلاً عن شبكات المياه والصرف الصحي، وإنارة البوليفارات بمصابيح الغاز، ووصلها بالجسور التي كان أهمها جسر قصر النيل، بل أضاف إلى ذلك تنظيم الحدائق التي كانت "الأزبكية" أهمها. وقيل إنه استعان بالمهندس الفرنسي الذي صمَّم حدائق التويلري، كما استعان بمهندس إيطالي لتصميم "دار الأوبرا"، وذلك بسبب الميراث الإيطالي في الأوبرات، وهو الميراث الذي دفع الخديو إسماعيل بتكليف الموسيقار فردي لإعداد أوبرا "عايدة" التي تعيد قصتها حكايات التاريخ الفرعوني لتكون الأوبرا العرض الأول في حفل الافتتاح. وقد بُنيت دار الأوبرا بأسرع ما يمكن للاحتفال ببدء الملاحة في قناة السويس في السابع عشر من تشرين الثاني سنة 1869. واستهلَّت عروضها في مساء التاسع والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر سنة 1869 بأوبرا "ريجيوليتو"، لأن فردي لم يكن فرغ من أوبرا "عايدة" بعد. وكانت الإمبراطورة أوجيني في مقدم مشاهدي العرض الأول إلى جانب ضيوف افتتاح القناة الذين تحلَّقوا حول إسماعيل في أوبراه الجديدة على تخوم حديقة الأزبكية بعد عام واحد فحسب من إنشاء المسرح الكوميدي في الحديقة، وهو المعرض الذي افتتح في الرابع من كانون الثاني يناير سنة 1868. وقد فعل علي مبارك ذلك كله في عقد واحد من الزمان، كان بمثابة استهلال لزمن جديد من التعليم المدني والعمران المديني، وذلك في منظومة وصلت التحديث الجذري لمدينة القاهرة بالتحديث الجذري للتعليم وأجهزة الثقافة ووسائلها التي تقف المطبعة والصحافة على رأسها. وكانت هذه المنظومة بأكثر من معنى محاكاة لمنظومة هاوسمان الباريسية الحديثة. وفي الوقت نفسه، كانت دليلاً على رؤية باريز بأعين متعاطفة، منبهرة، تسعى إلى إعادة إنتاج العاصمة الفرنسية في العاصمة المصرية، وذلك لكي يتحقق الحلم الملازم للرحلة إلى الآخر، ذلك الحلم الذي وصل إلى ذروته في وعي إسماعيل باشا الذي عمل على أن تكون مصر قطعة من أوروبا، أو تكون القاهرة مرآة ترى فيها باريز صورتها بأكثر من معنى وفي أكثر من اتجاه ومجال.