ثمة ضجيج في الأجواء المحيطة بالمسار السوري - الاسرائىلي توحي باقتراب موعد تحريكه او تشغيله مرة أخرى بدون أفق أو اتجاه واضح ومحدد حتى الآن على الأقل. والمصدر الأول لهذه الجلبة يكمن في ما تعكسه أجواء الاعلام الاسرائيلي بتوجيه مدروس، كما يبدو، من جانب المسؤولين الاسرائىليين. فقد أعلن أكثر من مسؤول وإعلامي اسرائيلي ان حكومة اسرائيل تفكر في إمكان استئناف المفاوضات استجابة لما وصف بمبادرة سورية تضمنتها تصريحات الرئيس السوري لصحيفة نيويورك تايمز في بداية كانون الاول ديسمبر الماضي حين أعرب عن استعداد سورية الدائم لاستئناف المفاوضات مع اسرائيل من حيث سبق وان توقفت. وجاءت الاعلانات الاسرائىلية، بعد مرور نحو شهر على هذه التصريحات وما أثارته من استجابات عربية ودولية، حيث استفاق المسؤولون الاسرائىليون محدثين هذه الجلبة، ربما او على الغالب، لاجهاض هذه الاستجابات والحيلولة دون تفاعلها وتبلورها مع الموقف السوري ودفعها في اتجاه ضاغط نحو واشنطن وتل أبيب. وما يدفع الى ترجيح ذلك هو ما توحي به الاجواء الاسرائىلية النشطة هذه الايام لتصوير قبول حكومة اسرائيل بمبدأ استئناف المفاوضات مع سورية وكأنه حدث وانجز تقدمه بلا مقابل. والأدهى انها تسعى، وهي تناقش الامر في إعلامها، الى تمرير اكثر من رسالة مفادها ان موافقتها على استئناف المفاوضات هو بمثابة تنازل تقدمه لسورية بل وأكثر من تنازل، حيث تحاول تصوير الامر وكأنه بمثابة رمي حبل نجاة لسورية لاخراجها من دائرة الضغوط والتهديدات والمحاسبة الاميركية، الامر الذي يستتبع ويفضح الرغبة في الحصول سلفاً على تنازل سوري مقابل لذلك. تحرص اسرائيل على أشكلة الموضوع كعادتها، على رغم بساطته المنطقية البينة، فالقول باستئناف المفاوضات يفترض ويتضمن منطقياً ان المفاوضات سبق وأن بدأت وتم التوصل عبرها الى نقاط او تفاهمات اتفاقية او توافقية معينة، وان ما حال دون وصولها الى هدفها ومبتغاها نقاطاً او قضايا خلافية محددة، وبالتالي فإن المفاوضات التالية او المقبلة هي استئناف للسابقة من حيث توقفت او تعثرت او انتهت. وهذا ما تقوله وتطالب به سورية منذ سنوات عبر دعوتها واستعدادها الدائم لاستئناف المفاوضات مع اسرائيل، وهذا ايضاً ما يفهمه العالم بشرقه وغربه من الدعوة الى استئناف المفاوضات. اما اسرائيل فتحرص على تقديم فهم او منطق جديد ومقلوب، اقل ما يمكن وصفه به انه فهم او منطق اشكالي، يعبر عن رغبة في اشكلة الموضوع او اصطناع اشكالية في شأنه بدءاً من نقطة البدء، الامر الذي لا يبشر باتفاق او خير قادم بقدر ما ينذر باختلافات وافخاخ جديدة تعود الى تبديد ما سبق وان أنجز وتبديد الأمل بامكان وصول المفاوضات الى مبتغاها: الانسحاب الكامل في مقابل السلام الكامل. تعبر حكومة اسرائيل عن هذا الفهم الاشكالي عبر القول إنها توافق على استئناف المفاوضات مع سورية من نقطة الصفر وليس من النقطة التي سبق وان توقفت عندها. وهذا ما يستدعي منطقياً القول إن اسرائيل لا توافق او لا تريد استئناف المفاوضات السابقة وان ما تريده هو بدء مفاوضات جديدة، الامر الذي يستدعي بالتالي الغاء كل ما سبق وان تم التوافق او التوصل اليه وديعة رابين مثلاً وربما الغاء المبادئ والأسس والقرارات التي انطلقت منها المفاوضات عام 1991: مؤتمر مدريد ومبادرة السلام والضمانات الاميركية وقرارات مجلس الأمن الدولي وفي مقدمها القرارين رقم 242 و338. تحاول اسرائيل ان تجعل من عملية استئناف المفاوضات على المسار السوري وكأنها قضية اشكالية قائمة بذاتها وتحاول ان تجعل من نقطة استئناف المفاوضات امراً خلافياً جديداً يحتاج الى مبادرات ووساطات ويستدعي تنازلات كي يتم الاتفاق على نقطة محددة لاستئناف او بدء المفاوضات من جديد. ولكن، سواء استؤنفت المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها سابقاً كما تطالب سورية بذلك، وهي محقة فيه، او من نقطة الصفر كما تشترط اسرائىل وتراوغ، فالمسألة في حقيقتها ليست مسألة من أين تستأنف المفاوضات بحد ذاتها بقدر ما هي وصول المفاوضات الى مبتغاها: اي نجاح المفاوضات في التوصل الى اتفاق سلام تنسحب اسرائيل بموجبها انسحاباً كاملاً من الجولان بما في ذلك تفكيك المستوطنات وسحب المستوطنين مقابل سلام كامل مع سورية. ثمة احتمالات اربعة تتعلق بامكان استئناف المفاوضات ونقطة بدئها والزمن الخاص بها: 1- استئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها والوصول بسرعة الى اتفاق في شأن العشرين في المئة من القضايا المختلف عليها. 2- استئناف المفاوضات من نقطة الصفر واستغراقها بالتالي زمناً طويلاً جداً. 3- استئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها واستغراقها وقتاً طويلاً حتى يتم الاتفاق على العشرين في المئة من القضايا المتبقية بزعم انها القضايا الأصعب. 4- استئناف المفاوضات من نقطة الصفر والتوصل الى اتفاق في غضون وقت قصير نسبياً. والعامل المقرر والمرجح لأي من هذه الاحتمالات سابقاً وراهناً ومستقبلاً هو اسرائيل في الدرجة الأولى، فهي التي تملك القرار طالما انها تريد استمرار احتلال الجولان وزيادة اعداد المستوطنين فيه، والعامل الثاني، لكنه الغائب او المغيب حتى الآن، هو أمر أو قرار يصدر عن الولاياتالمتحدة او المجتمع الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة يطالب اسرائيل بوجوب انهاء احتلالها للجولان وتفكيك مستوطناتها القائمة في غضون فترة محددة في مقابل سلام كامل مع سورية. أوضح الرئيس السوري في حديثه الى صحيفة "نيويورك تايمز" ان العودة بالمفاوضات الى نقطة الصفر كما تريد اسرائيل تعني: أولاً - إضاعة المزيد من الوقت. ثانياً - ان الجانبين قد لا يتفقان على المواضيع التي سبق وان اتفقا عليها والتي تقدر بنحو ثمانين في المئة من الامور المطروحة على جدول المفاوضات. ثالثاً - ان سورية تدعو الى استئناف المفاوضات من حيث توقفت حرصاً منها على الوصول الى السلام في أقرب وقت بأفضل النتائج. * كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.