نشرت "الحياة" في 5/2/2004 خبراً خلاصته ان يوسي بيلين وياسر عبدربه يعملان الآن لتبني القمة العربية في تونس، أو في غيرها، "مبادرة جنيف". وحجتهم في ذلك هو "اقناع" الاسرائيليين بأن العالم العربي شريك في الحوار والتسوية قيل مثل هذا قبل تبني قمة بيروت للمبادرة العربية. والهدف الثاني اقناع شارون بالاتفاق مع الفلسطينيين وعدم الاقدام على خطوات أحادية الجانب. والأنكى، يقول الخبر المنقول عن "هآرتس" ان المذكورين يسعيان الى ان يضغط الزعماء الأوروبيون على الزعماء العرب لإقرار تبني المبادرة. والخارجية الاميركية لن تقصر، بالطبع، في اللجوء الى رسائل ضاغطة عدة من أجل هذا الهدف اذا لم تنجح في تفشيل عقد القمة أو تفجيرها من الداخل. يصعب ألا يلحظ من الخبر، بداية، ان "مهندسي" مبادرة جنيف يسؤهما ان يتراجع شارون وينسحب من قطاع غزة ويفكك مستوطنات فيها، وربما خطوات مماثلة من بعض أراضي الضفة، وبلا قيد أو شرط. وهذا معنى التخويف من اتخاذ خطوات "أحادية الجانب". وذلك بدلاً من ان يترك شارون لينسحب، وأنفه راغم من أية قطعة أرض يحتلها، بما في ذلك، الانكفاء وراء الجدار، ومحاولة فرضه "حدوداً" أو "خطاً أزرق" فلسطينياً. ولكن شرط ان يتواصل ما يتعرض له من ألوان مقاومة فلسطينية، وعزلة عربية ودولية. لأن الخطوات الأحادية تعني اقراراً بفشل الاستراتيجية التي طبقت طوال السنوات الثلاث الماضية. والتي كان هدفها القضاء على الانتفاضة والمقاومة وصمود الشعب الفلسطيني والاتيان بقيادة بديلة. ومن ثم فرض التسوية الليكودية للقضية الفلسطينية. بل ان بناء الجدار الى جانب اعتراف صريح من رئيس الأركان الاسرائيلي موشيه يعالون يؤكدان ذلك الفشل. وان كان النجاح في فرض القبول بأمر واقع جديد تفرضه تلك الخطوات يشكل كارثة فلسطينية. وهو ما لا يجوز ان يسلم به فلسطينياً وعربياً واسلامياً. بل يجب ان يكون نقطة انطلاق لتشديد النكير على حكومة شارون وجدارها وتحويله الى مأزق حقيقي لها. يبدو ان هذا ما يقلق يوسي بيلين ومن يعمل معه، ولكن لماذا يقلق ياسر عبدربه ومن يشجعه؟ فشارون حين ينسحب من شبر من الأرض لا يفعلها إلا مضطراً وبعد فشل... ولا يغير من هذه الحقيقة ما يمكن ان يخطط له بعد ذلك. وهو ما يسعى اليه الآن من فرض أمر واقع على جانبي الجدار من اغتصاب اكثر من نصف أراضي الضفة الغربية ومياهها الجوفية فضلاً عن أرا ضي الغور الغربي من نهر الأردن والسيطرة على الحدود. عندما اطلقت "مبادرة جنيف" رُكز على ما حملته من تنازل مجاني من الجانب الفلسطيني الذي وقعها عن حق العودة. وقيل الكثير في توقيتها ولماذا جاءت بعدما فشل شارون وراح يهدد بالانسحاب من أراض تحت الاحتلال من جانب واحد أي بلا قيد أو شرط. وما سيترتب عليه من تأزيم متعدد الأوجه. ولكن الحراك الجديد لتحويل "مبادرة جنيف" الى "مبادرة عربية" تتبناها القمة العربية المقبلة كشف بعداً آخر من أبعاد التخطيط "اليساري" الاسرائيلي للمبادرة، أي الضغط لانتزاع تنازل مجاني رسمي عربي وفلسطيني عن "حق العودة". ومقابل ماذا؟ "اقناع" الاسرائيليين بأن العالم العربي شريك في الحوار والتسوية، علماً ان المبادرة العربية في قمة بيروت اوفت بهذا الغرض. ولكنها أصبحت الآن "غير كافية" انها القصة المكررة في استدراج الفلسطينيين والعرب للتبرع بتقديم حلول "معقولة" أو "انسانية" أو "عملية" للقضية الفلسطينية تتخذ شكل برامج مرحلية أو مبادرات. أما الحجة فكانت دائماً "احراج" الحكومة الاسرائيلية والإدارة الاميركية و"كسب" الرأي العام الغربي المقصود الحكومات و"التأثير" في الناخب الاسرائيلي. الأمر الذي يتضمن بالضرورة تنازلاً ما عن حق اساسي من الحقوق في فلسطين. ولكن ما ان تحدث الاستجابة لهذا الاستدراج، وتنال بعض المديح، سرعان ما تصبح "غير كافية" ولا بد من خطوة اخرى. بدأت القصة مع "الحل الديموقراطي" من 1920 الى 1947، ثم الموافقة على قرار التقسيم، وقس عليه كل القرارات والمبادرات الدولية وصولاً الى اتفاق اوسلو و"خريطة الطريق" ولا تستثني البرامج المرحلية الفلسطينية. على ان مشكلة "حق العودة" بقيت معلقة يُناور من حولها من دون الولوج المحدد فيها، الى ان جاءت "مبادرة جنيف" لتخطو خطوة احتيالية في هدر "حق العودة" حين حصرته في حق العودة الى الأراضي التي تحت الدولة الفلسطينية المقترحة، في حين قصد منه "العودة الى أراضي ال48". ولو وضعنا اشكال الاستمساك بالمبادئ والثوابت والحقوق جانباً وهذا خطأ بالتأكيد لوجدنا من جانب من هان عليهم ذلك الاشكال فضيحة مجلجلة حتى من الزاوية السياسية - البراغماتية الصرف. والدليل، السخاء في تقديم التنازلات المجانية من دون ان يتقدم الطرف الاسرائيلي الرسمي بخطوة موازية، وبلا التزام ذي صدقية من جانب الوسطاء الدوليين في الثبات على الموقف. فهم يحتالون دائماً على مواقفهم بترك الأمر للتفاوض. وما اسهل تقلبهم واعادة الكرة الى الملعب الفلسطيني والعربي للتقدم ب"مبادرة جديدة". وبكلمة، المطلوب دائماً من الفلسطينيين والعرب ان يعطوا "سعرهم" فيما لا يشترط على "الآخر" ان يوافق رسمياً عليه أو حتى ان يعطي سعره. فهو دائماً في موقع استقبال التنازلات له، فيما أوراقه مغطاة ولا يقول شىئاً محدداً ملموساً. فأين "الواقعية" والسياسة والبراغماتية هنا، وأي طريقة هذه في ادارة الصراع. وجرياً وراء هذا النهج يراد اليوم من القمة العربية ومن السلطة الفلسطينية غطاء التنازلات العربية ان يوافقا على "مبادرة جنيف" أو يرحبا بها، أو يصوغا "مبادرة" على نسقها، أي تقديم تنازل مجاني جديد، وبسذاجة سياسية - براغماتية فاضحة. مقابل لا شيء من الطرف الرسمي الاسرائيلي فماذا يمثل بيلين؟، ومقابل لا شيء أوروبياً أو أميركياً سوى وعود، وبلا صدقية في ممارسة ضغوط على حكومة شارون. ولعل المواقف الدولية الأخيرة من قضية الجدار أمام محكمة العدل الدولية يكشف جديتها من الجدار فكيف جديتها بالنسبة الى القضايا الاخرى التي تمثل فضيحة أخف من فضيحة الجدار. الأمر الذي يوجب عقد قمة عربية ترمي وراء ظهرها "مبادرة جنيف" سيئة الصيت والسمعة، وتأخذ موقفاً قوياً في دعم الشعب الفلسطيني في مقاومته للاحتلال، واطاحة مشروع الجدار. فضلاً عن دعم شعب العراق للتخلص من الاحتلال الاميركي، والوقوف في وجه الحملات الظالمة التي يتعرض لها العرب والمسلمون. * كاتب فلسطيني، عمان.