"العرب بين ثقافة التغيير وتغيير الثقافة"عنوان المؤتمر الثالث الذي اصطفته مؤسسة الفكر العربي لهذا العام 2004 في مدينة مراكش، وهو يقدم فرصة لحراك فكري في محاولة للإجابة عن سؤال مؤداه: هل يختار العرب ثقافة التغيير ويقبلون عليها ويصنعون مناخها ويقدمون الامكانات والطاقات اللازمة لذلك، أم ينتظرون أن يغير الآخرون لهم ثقافتهم بالقوة والفرض؟ وللتأكد من فهم مضمون الشعار لا بد من تفكيكه إلى عناصره الرئيسة ثم إعادة تجميعه ضمن إطار فهم أجزائه. يحتوي هذا الشعار على مفردتين مهمتين، هما: الثقافة والتغيير، ولا بد من أن نقدم فهماً لهاتين المفردتين ليستقيم بعدئذ المجال لتقديم وجهة نظر تجاه فكرة المؤتمر. أولاً: الثقافة. تعددت محاولات تعريف الثقافة، ويشير أسامه عبدالرحمن في كتابه"المثقفون والبحث عن مسار"1987 إلى ذلك قائلاً:"لا يوجد تعريف محدد للثقافة، وبعض التعريفات تتسع لتشمل كل إصدار فكري، وبعض آخر يقصر ذلك على الإصدار الفكري الذي ينطبق عليه معيار الإبداع". وقد يتسع مفهوم الثقافة ليشمل أي تراكم للقيم والتقاليد الاجتماعية والتراث المجتمعي فكرياً أو مادياً، ويمكن تعريف الثقافة بأنها التراكم الإبداعي عبر مسيرة الحضارة الإنسانية والمعرفية بشتى أبعادها، ولا يقتصر مفهوم الثقافة على الآداب والفنون والفلسفة فقط، بل يشمل الإبداع في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والإدارة وغيرها. ويصف عبدالرحمن المنيف في كتابه"بين الثقافة والسياسة"2000 غرضاً من إغراض الثقافة قائلاً :"إن ثقافة أي شعب تمثل السمات الأساسية التي تكوّن وجدانه وتعكس مدى صلابته وتحدد كيفية تفكيره ومواجهته الأزمات والتعبير عن موقفه... كما أنها خير معبر عن الروابط الأساسية وتطلعات المستقبل أكثر مما ترتهن للطارئ والجزئي". أما تركي الحمد في كتابه"الثقافة العربية في عصر العولمة"2003، فيرى أن الثقافة هي"معايير للعقل والسلوك، تحدد معنى الحياة، ورموزاً تحدد غاية الحياة"، فالثقافة في نظره هي التي تقف وراء النشاط الحضاري للإنسان وهي التي تجعل الحضارات تختلف عن بعضها بعضاً. ادوارد شاين، احد علماء الإدارة، وغيره كثيرون يتبنون تعريفاً للثقافة يرى أنها مجموعة من النظم - قيماً ومعتقدات ونماذج - يحدد بها أفراد المجتمع ما هو مهم لهم وكيف يجب أن يكون سلوكهم وكيف يتفاعلون مع بعضهم بعضاً وماذا يجب أن يتطلعوا إليه، وبالتالي تتكون لديهم هوية جماعية. وتتكون الثقافة المجتمعية كما أشار ادوارد شاين 1985 من العناصر الآتية: الابداعات، القيم، المسلّمات الأساسية، النماذج، المحرمات، اللغة، اللهجة العامية والرطانة، المجازيات والرموز، الأمثال والتعابير، القصص، الحكم والأساطير، النكت والإشاعات، الاحتفالات والعادات والتقاليد، الأساطير والأبطال، المعتقدات، وأخيراً الصورة والهوية. ولكل عنصر من هذه العناصر أثره في السلوك المجتمعي وتأثره به. لذا يمكن أن نعرّف الثقافة بأنها"السلوك الفكري والمادي الذي بواسطته تتجدد الفاعلية الاجتماعية، وبالتالي فإن هذا السلوك يشمل النواحي الفكرية كالإصدارات في مختلف صنوف المعرفة الإنسانية، ويشمل ايضاً النواحي المادية كالملابس والاحتفالات وغيرها". وإذا أردنا التصدي لثقافة أي مجتمع في محاولة لتطويرها لتتكيف مع المتغيرات، لا بد من أن يكون الجهد شاملاً في جميع عناصر الثقافة المجتمعية، التي يمكن أن تؤثر في أداة التغيير وهي الفكر، فتجعله إما شامخاً مبدعاً وإما متقوقعاً راكداً. وهناك أمثلة مختصرة تبين كيف أن آثار بعض عناصر الثقافة المجتمعية مدمرة للفكر الذي يطور المجتمعات، منها عادة مقاومة التغيير السائدة في كثير من المجتمعات العربية، ومسلّمة أن"كل بدعة ضلالة"على رغم أن المقصود هو البدعة في الدين، إلا أن استخدامها يشمل كل ما هو جديد، وما نراه في كثير من الدول العربية من نرجسية وإصرار على زعم التفوق. ما سبق، يبين مقدار المعاناة التي يلقاها"الفكر"لينطلق في عالم المعرفة ويصطفي للمجتمعات العربية خير ما في هذه المعرفة من علوم وآداب وفنون وغيرها. ثانياً: التغيير. يخطئ من يظن أن الحاجة إلى التغيير إنما نبتت فجأة في هذا العصر. فالتغيير سنّة الكون منذ خلق الله الأرض ومن عليها. يقول هيراقليطس 217 قبل الميلاد:"كل الأمور في تغيير ولا يوجد شيء ساكن... لا تستطيع أن تضع قدمك في النهر نفسه مرتين، والتغيير ليس في المجال السياسي والاجتماعي فقط، بل إن عناصر الوجود كلها تتغير، وحدوث التغيير في الثقافة المجتمعية لا يتم إلا إذا استقرت فكرة التغيير في النفوس قبل أن تطفو إلى سطح الوعي المجتمعي، وان وسيلة إحداث الوعي بالتغيير في الثقافة المجتمعية وأداة الإحساس بفهم أهمية التغيير وسبل رصد التغيير وإبداع سياسات إدارة التغيير بحكمة، إنما تكمن في شيء واحد هو"الفكر". ثالثاً: خصائص الثقافة المجتمعية العربية. المعلومات التي نوردها في هذه الفقرة نوجز بعضها من كتاب جيرت هوفستيد"الثقافة والمؤسسات"1984 وهي من خمسة عناصر: الأول، معيار القوة - المسافة، وهو المدى الذي بموجبه يتوقع الأفراد الأقل قوة في المجتمع ويقبلون حقيقة أن القوة غير موزعة توزيعاً عادلاً في هذا المجتمع، والمجتمعات العربية في شكل عام، سجلت رقماً عالمياً في هذا المجال مما يؤدي الى شيوع الصور المقولبة عن أي شيء والتي لا تتغير وكذلك الطبقية، وهذا يوجد مشكلات في الاتصال الفكري ويحد من تبادل الآراء والمعلومات، وتشيع كذلك الرسمية المزيفة والجامدة، مما يحد من إمكان التعاون، وتشيع المركزية في اتخاذ القرارات مما يحد من المشاركة والانفتاح، وأخيراً فإن الاحترام والتقدير المبالغ فيهما للأكبر سناً أو الأعلى مرتبة يحدان من إمكان مناقشة آراء هذه الفئات وإن لم تكن مواكبة للعصر. والثاني هو معيار الفردية - الجماعية، فالمجتمعات العربية في شكل عام مجتمعات جماعية وليست فردية كالمجتمعات الغربية، لذا فان الأعمال ذات الجهد الجماعي مفضلة، لكن الإبداع الفردي لا يحظى بالتقدير ذاته، ومن أهم أنواع الجماعية الميل إلى العمل مع الأقارب أو تفضيلهم وشيوع الوساطة تحت شعار"شيلني واشيلك"و"الاقربون بالمعروف أولى". والمعيار الثالث يتعلق بالذكورة - الأنوثة، ولا علاقة لهذا المعيار بالناحية البيولوجية. فالمجتمعات التي تسود فيها طبائع الذكورة من حب للتميز والمال والإنجاز تختلف عن المجتمعات التي تسودها طبائع الأنوثة من عطف وحنان وتواصل. وبحكم اثر الدين الإسلامي في معظم المجتمعات العربية يمكن أن نصنف العرب مجتمعات تسود فيها سلوكيات تراحمية وعواطف جياشة، لكن أهم عيوب هذه الطبائع هو الدعة والسكون وعدم الإقدام على تحقيق الإنجازات، وكذلك عدم اعتبار الوقت عنصراً مهماً. فما لا ينجز اليوم ينجز غداً. وهناك معيار تجنب الغموض، ويعني مدى الخوف أو التهديد الذي يشعر به أفراد المجتمع تجاه الغيب أو المجهول. وقد سجل العرب - بحسب رأي هوفستيد - رقماً أعلى من المتوسط في هذا المجال، أي أنهم يخشون المجهول ويتوجسون خيفة من المستقبل وما يخبئه لهم. ومن أهم آثار ذلك شيوع القلق، وكراهية المسؤولية والرغبة الشديدة في وجود اكبر قدر من الأنظمة والتعليمات والضوابط لضمان ألا تأتي الأمور بما لا تشتهي السفن، لذا تشيع البيروقراطية والضوابط لكل شيء والخطوط الحمر التي ينبغي عدم تخطيها. أما معيار المديين الطويل والقصير، فهو تعبير عن نظرة المجتمع إلى الوقت، ولم أجد دراسات تتحدث عن موقع العرب في هذا المجال، إلا انه يمكنني القول ان المجتمعات العربية عموماً - مع بعض الاستثناءات - لا تنظر للوقت كعامل مهم سواء في الحياة اليومية أو في الأعمال، وتبعاً لذلك تشيع الرغبة في الحصول على نتائج سريعة، والأزمات تعالج فقط عندما تندلع ونادراً ما يتم توقيتها. ومحاولة اختراع أنظمة وقوانين للسيطرة على حال التغيير، ومن اسطع الأمثلة على اثر ذلك ندرة الوعي بأهمية البحث والتطوير بسبب أن نتائجها ليست سريعة، وقس على ذلك وجود الخطط الطويلة الأجل، فهي نادرة تبعاً لمفهوم"عالج أمور اليوم، أما المستقبل فإنه في علم الغيب"، ولا تعبر الجسر إلا حينما تصل إليه، وغالباً لا احد يصل إلى الجسر! المعيار السادس هو معيار القضاء والقدر والنقد والتعلق بالماضي، لم يقدمه هوفستيد ولكنني جمعت فيه بعضاً من خصائص المجتمعات العربية السلوكية التي تشكل جزءاً من الثقافة المجتمعية العربية. فالعنصر الأول يجعل الإنسان العربي في معظم الأحيان يعزو ما يحدث له من إخفاقات إلى قدره - أي مذهب الجبرية - وانه لا حيلة له. فكل شيء مكتوب"والمكتوب عالجبين لازم تشوفه العين". وفي هذا إنكار لحرية الإنسان في الاختيار، وبالتالي تشيع ظاهرة التواكل وعدم الرغبة في اقتحام المجهول فكراً وعملاً. العنصر التالي: النقد، فالعرب عموماً يكرهون النقد ويجعلونه في مرتبة الانتقاد والذم ويكرهون أن يتم ذلك علناً ويبذل كل إنسان ما في وسعه لحفظ ماء الوجه، كذلك تشيع روح ادعاء الكمال والعصمة من الأخطاء بين كثير من الناس، وخصوصاً من هم في مواقع صنع القرار، لذلك تندر المناقشة والعراك الفكري المجرد وتقل الشفافية. أما التعلق بالماضي فأعتقد ان ليس للعرب مثيل في هذا الأمر إلى درجة أنهم كادوا ينسون الحاضر. نلمح ذلك في كثرة المسلسلات التي تتحدث عن بطولات قديمة، ومجد سليب في الأندلس ولا تترك فرصة إلا وتذكر العالم بأننا اخترعنا الصفر. أما في الحاضر، فإن مساهمتنا في الحضارة الإنسانية تكاد لا تذكر سواء في مجال العلم أو الآداب أو الرياضة أو الحرب... الخ وبالطبع هناك استثناءات، مجرد استثناءات. رابعاً: إدارة التغيير. لعل القارئ لاحظ أنني لم اقل مواجهة التغيير أو مجابهة التغيير بل إدارة التغيير، وإدارة التغيير لا بد من أن يسبقها وعي به وبأهميته. ويمكن أن ألخص ذلك: - الهدف: استنبات ثقافة مجتمعية جديدة محابية للتغيير وليست مجافية له. - الاستراتيجية: توجيه الفكر العربي وجهة إبداعية وتنويرية وناقدة. - السياسات: دعم الفكر الإبداعي وتشجيعه في كل مجالات العلم والمعرفة، وتطوير الفكر التنويري الذي يهدف إلى معالجة الاختلالات السلبية في الثقافة المجتمعية، ويمكن من إعادة النظر في كثير من المسلّمات التي يمكن أن تعوق نهوض المجتمع ثقافياً، وكذلك العناية بالفكر النقدي، وهو الفكر المتعلق بعرض تجارب العرب وتجارب الثقافات الأخرى على ميزان العلم والمعرفة للإفادة من تلاقح الثقافات وليس تصادمها. - المجال: أن يتم التركيز في الفكر التنويري على فئة الشباب، لان استنبات التغيير في الكبار اشد صعوبة بعد أن تكونت لديهم صور مسبقة في الحياة لا مجال لتبديلها. - الشروط: يستلزم النهوض بثقافة المجتمع العربي شروطاً لا بد منها، وهذه الشروط نوعان هما: - شروط الفعل. وتشمل توافر وسائل إنتاج الفكر والمعرفة المقروءة والمسموعة والمرئية والالكترونية لكل صاحب فكر، وتوافر وسائل نشر المعرفة، وخصوصاً المعرفة الابداعية وليست المقلدة، والمثابرة على هذه الجهود وتوزيعها على عناصر الثقافة المجتمعية كافة. - شروط المساندة. وتشمل الحرية وهي وسط بين الانفلات والانغلاق، والعدالة والمساواة بأن يحصل كل المفكرين على الفرصة ذاتها من التقدير والاهتمام وتوسيع مفهوم العلماء، أي من يضيف إلى المعرفة وليس من يجترها. - المراجعة والتقويم، بأن تتصدى المؤسسات العلمية لثورة الفكر هذه بالابحاث والدراسات ووضع معايير الإبداع الفكري ومتابعة أنشطته وتقويمه نقداً وليس انتقاداً، وألا يترك أمر التقويم هذا لكل حاطب ليل. في النهاية لا بد من أننا تعرفنا على أن الثقافة المجتمعية هي مفهوم شامل وان ثقافة التغيير هي الثقافة التي تحمل بين طياتها وفي جنبات عناصرها عوامل القبول والرغبة في التغيير، وان تغيير الثقافة عملية مستمرة ولا خوف منها طالما أحسن المجتمع العربي إدارة التغيير بجهود ذاتية تقطف من الإبداع المحلي وتجني من الإبداع الثقافي للآخرين. ولا بد من أننا توصلنا إلى أن اس التغيير وسنده ودعامته هي العناية بالفكر في مناخ تتوافر فيه فضائل الحرية والعدالة والمساواة، ولا بد من أننا علمنا انه لا قيمة لجهد لا هدف له، ولا وصول لهدف دونما استراتيجية، ولا نجاح لاستراتيجية من دون سياسات رشيدة ومثابرة متواصلة وشاملة، ولا قيام لذلك دونما أساليب وأدوات ووسائل ملائمة. * كاتب سعودي.