على غرار مفهوم خط الفقر المستخدم في الدراسات التنموية يمكن أن نفكر في مفهوم لخط الفقر السياسي، قد يفيد في تصنيف الدول سياسيا. ونقترح أن الشعوب التي تقع دون خط الفقر السياسي هي الشعوب المحرومة من حرية التعبير عن الرأي وحرية التجمع والتنظيم. لماذا هاتان الحريتان بالذات؟ لأنهما حاجتان حيويتان قبل أن تكونا مطلبين كماليين متصلان بمفهوم حديث للديموقراطية أو لحقوق الإنسان. فضرورة حرية الرأي مبنية على حاجة الناس إلى التعبير عن حالهم وإعلان شكاواهم والقول إنهم متألمون أو جياع أو محاصرون. إنها أساسا "حق" في الصراخ من الألم. ولا منافس لحرية التعبير في تعرف المجتمعات الحديثة على مشكلاتها وفي تحويل المشكلات إلى مسائل برسم الحل المسألة طرح معلن وصياغة عقلانية ومنظمة للمشكلة. وبدورها حرية التجمع حاجة حيوية تتصل بلزوم التعاون لتحقيق مصالح جمعية والتضامن في الشدائد والدفاع الجمعي عن الذات. ولعل التجمع في الأصل والأساس احتشاد لدفع خطر داهم. والصراخ ألماً والاحتشاد الدفاعي أساسيان أو غريزيان بقدر ما الغذاء واللباس والسكن كذلك. وهما بهذه الصفة يصلحان لتعريف خط الفقر. فهل هناك إدقاع أشد مما يعانيه مجتمع ممنوع من الصراخ والالتئام؟ وفي ما وراء الحقوق والغرائز حريتا التعبير والتجمع وظيفتان اجتماعيتان لا تتكامل المجتمعات الحديثة و"تشتغل" من دونهما. ليس هناك تطابق أو ارتباط مباشر بين خط الفقر الخاص بالدراسات التنموية وخط الفقر السياسي. فمن الممكن أن يكون بلد فقيرا وديموقراطيا، وربما نجد بلدانا ثرية ثروة ريعية بخاصة ومملقة سياسيا، وتجمع معظم بلادنا العربية الأسوأين فيما تجمع الديموقراطيات الغربية بين الأحسنين. وربما تكون العلاقة عكسية بين الفقرين: فالمجتمعات الفقيرة سياسيا تنحو إلى أن تفشل ماديا وإلى اتساع دائرة الفقراء المطلقين فيها. يتميز نظام الفقر السياسي بفجوة واسعة في توزع السلطة السياسية في المجتمع قد تفوق فجوة توزع الدخل. كانت مجتمعات أوروبا الشرقية بالغة الفقر سياسيا رغم أنها متوسطة الدخل على العموم. وكانت تحكمها نخب نخب فاحشة الغنى السياسي تفعل ما تشاء. وكان الألمان الشرقيون اغنى ماديا من الإيطاليين لكنهم أفقر سياسيا بكثير منهم. ورغم ان متوسط الدخل السنوي للفرد السوري أعلى من دخل الفرد اليمني فإن سورية أفقر من اليمن ومن معظم الدول العربية سياسيا. ويتمتع الأردنيون واللبنانيون من الدول العربية المجاورة بحريتي التجمع والتعبير عن الرأي بدرجة لا تتوفر للسوريين. أما فلسطين والعراق فأوضاعهما أعقد من ان تجدي المقارنة مع سورية. فهما بلدان يقبعان دون "خط فقر سيادي" مدقع إن جاز التعبير. ثم إن المشكلات اللبنانية، سواء ذات بعد السيادي أو تلك المتصلة بحرية التعبير والتجمع، متصلة بتعميم "نمط الإنتاج السياسي" السوري بدرجة كبيرة. وتتنوع الصيغ التنظيمية لبلاد الفقر السياسي، فمنها ديكتاتوريات فردية، ومنها أنظمة حزب واحد، أو أنظمة لا تسمح أصلا بوجود أحزاب سياسية أو اي شكل من اشكال الانتظام الاجتماعي المستقل. وقد تكون عقائدها دينية او علمانية. وقد تكون اقتصادياتها دولانية و"مخططة" لكنها قد تكون أيضا اقتصاديات سوق. والشعوب الأفقر سياسا هي التي تحكمها أنظمة الطغيان المحدث التي سميت الأنظمة الشمولية. كان أمارتيا سن قد غير مفهوم التنمية حين عرفها بأنها توسيع للخيارات، أو ببساطة: حرية. وفي كتابه "التنمية حرية" يؤكد أنه ما من بلد ديموقراطي واجه مجاعة خطيرة، رغم انه حصل لديموقراطيات متوسطة ومتدنية الدخل أن واجهت كوارث طبيعية وأوضاعا اقتصادية صعبة. وبالعكس: "إن البلدين اللذين يقودان تحالف المجاعة في العالم هما كوريا الشمالية والسودان، وكلاهما مثال ناصع للحكم الديكتاتوري"، حسب الاقتصادي الهندي الشهير. والمهم أن سن فتح الباب لتحرير المطلب الديموقراطي من ربطه بعتبة دخل دنيا 6000 دولار للفرد سنويا كان يصر عليها كل من المنظمات الدولية والمؤسسات المالية الدولية والدول الكبرى، بما فيها الديموقراطيات الغربية طوال فترة الحرب الباردة. إنها نظرية "النمو أولا، الديموقراطية فيما بعد" حسب تعبير كل من جوزف سيغل ومايكل ولشتاين ومورتون هالبرين في دراسة مشتركة لهم بعنوان "لمَ تتفوق الديموقراطية على غيرها؟" مجلة فورين أفيرز الأميركية، أيلول/ تشرين الأول 2004. ومشكلة الربط بين الديموقراطية والدخل المتوسط الذي تمثله عتبة الستة آلاف دولار أن أي نظام تسلطي لم يستطع أن يقود بلده إلى هذا المستوى من الدخل كما يقول الكتاب الثلاث المشار إليهم. اي ان فرص هذه البلدان في "الإقلاع الديموقراطي" ضعيفة جدا. وهو ما يثير الشك في صواب هذا النهج التطوري الذي يذكر بارتباط الاشتراكية بتقدم قوى الانتاج في المنظور الماركسي. في بلدان الريع الاستخراجي العربية تطرح مشكلة مختلفة بعض الشيء لكنها تصلح مثالا على الترابط العكسي: انعدام الديموقراطية او ما سميناه الفقر السياسي يهدر الغنى المادي ذاته. وكان تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر عن برنامج الأممالمتحدة الإنمائي لعام 2002 قد اعتمد مفهوم التنمية كحرية، ما قاده إلى تشخيص ثلاث فجوات غير اقتصادية تشكو منها التنمية العربية: فجوة المعرفة وفجوة الحرية وفجوة تمكين المرأة صدر تقرير يغطي فجوة المعرفة في مطلع خريف 2003، ويوشك أن ينتهي عام 2004 ولما يصدر التقرير الذي يفترض ان يتدارس فجوة الحرية" عسى الا تكون الفجوة ابتلعته! يمكننا ما سبق من قول كلمتين حول فلسفة التنمية المعتمدة في سورية، وهي فلسفة اقتصادوية مهتمة بمفهوم جامد وعقيم وأحادي البعد للتنمية، مفهوم يتردد حتى في الوعد برفع معدل النمو الاقتصادي وخفض جدي للبطالة، وفوق ذلك لا يطرح اية مطالب تخص العدالة والحرية. ففي ظل الإفقار السياسي، وبالخصوص في عقد الثمانينات الضائع تنمويا وسياسيا وإنسانيا، أخذت تتسع دائرة الفقر وشرع القطاع الحكومي من الاقتصاد يراكم تخلفا متعدد المستويات. ولفرط جموده صار في النهاية اقتصادا طاردا حتى للاستثمار الحكومي. فمخصصات الاستثمار من الميزانية تفيض، وما ينفق منها مجادل في وجوه إنفاقه. وهذا وحده يكفي للقول إن الطرح الاستثماري لأزمة الاقتصاد السوري، أي بأولوية الحصول على رساميل اجنبية، مغرض وغير صحيح. وإذا كانت سورية هي الأسوأ بين بين 15 بلدا عربيا رئيسيا في مناخ الاستثمار حسب التقرير عام 2003 ص 102، فالفضل الأول في ذلك للفقر والقنانة السياسية. وبينما قد يبلغ معدل البطالة ربع أو حتى ثلث قوة العمل في البلاد، فإن معدل البطالة السياسية ينافس النسبة الاستفتائية التسعة وتسعينية. وربما تكون الفائدة الوحيدة لهذه النسبة الأخيرة أنها مقياس دقيق لمؤشر البطالة أو السياسية. فرص الإصلاح في سورية مرهونة بالانفتاح على مفهوم التنمية الإنسانية، اي النظر للفقر والبطالة كمساس بالمواطنة والحرية. أما الفلسفة الحالية التي ترى في الحريات خطرا على التنمية فهي خطر على التنمية والحرية والمستقبل معا. والبداية الصحيحة معالجة الفقر السياسي. فدون رقابة ديموقراطية من السوريين على الانتقال الاقتصادي ستكون حصيلته انتقالا من فشل الدولة إلى فشل السوق حسب عبارة تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002.