السريلانكيات العاملات في منازل ذلك المبنى الحديث في بيروت صحون باكراً بالأمس كعادتهن كل يوم، وباشرن بمسح زجاج الشرفات، فيما رحت اراقب هذه المرة ما يفعلونه محاولاً استشعار اثر الزلزال الذي هز بلادهن في ادائهن الذي اشهد فصولاً منه كل يوم. لا شيء جديداً، الأداء نفسه والمواظبة على الواجبات نفسها، حتى ان تلك السيدة التي راحت تعطي تعليمات الى الخادمة التي تعمل عندها، لم تظهر انها شاعرة بما اصاب بلاد خادمتها. كانت السيدة تراقب الزجاج وتحدث الشابة السريلانكية تماماً كما حدثتها بالأمس، وحين تباطأت الخادمة امسكت السيدة بالفرشاة وراحت تُسّرع عمل السيريلانكية من دون ان يعني انها تُعنفها. المشهد الصباحي لذلك المبنى الحديث جدير بأن يصور، هذا ما اردده في داخلي كل صباح حين اقف على شرفتنا المقابلة له. اكثر من عشر سريلانكيات متوزعات على الشرفات يقمن بأعمال متشابهة، بعضهن يتبادلن ايماءات يتبعنها بابتسامات، وبعضهن يرسلن نظرات خجولة وقصيرة الى الشرفات القريبة. اما بالأمس فأمر واحد تمكن اضافته الى هذا المشهد، وهو اقتصار ادائهن على الأعمال المنزلية من دون تلك الأيحاءات التبادلية، وربما لا شيء اضافياً باستثناء ما يحدثه التدقيق من اوهام وافتعالات. لكن الاقتراب من هؤلاء العاملات يشعرك بأن صمتهن وعدم ظهور علامات القلق على ادائهن هو ضرب من ذلك الصمت الذي يمارسنه حيالنا. انه انعدام الوجود، ذلك الذي يواجهن به وجودنا الثقيل في حياتهن. نيما وهي سريلانكية تعمل في اكثر من منزل في بيروت، قالت ان عائلة زوجة شقيقها تقيم في المنطقة المنكوبة. اما اهلها فهم بعيدون قليلاً عن المنطقة الساحلية. ونيما لم تتمكن من مقاومة التسمر امام شاشة التلفزيون حين بدأت نشرة الأخبار. الاتصال بأهلها كان صعباً بالأمس كما قالت ولكنها تمكنت في النهاية من الاتصال بهم والأطمئنان. زوجة اخيها التي يقع منزل عائلتها في المنطقة المنكوبة تعمل ايضاً في لبنان وتقيم مع نيما في غرفة في حي السلم. لم تخبرنا نيما شيئاً عن قلق نسيبتها على اهلها. ربما شعرت ان هذا لا يهمنا نحن الذين اعتدنا على وجودها الخفي وغير المشعور به، فكيف سنهتم بقلق نسيبتها التي لا نعرفها. الأكيد ان صلة هؤلاء الشابات السريلانكيات بمآسيهن مختلفة عن صلتنا بمآسينا. فميرا، وهي سيدة سيريلانكية تعمل في شركة في بيروت لم يظهر عليها ما يمكن ان يظهر على سيدة نجا ابنها بأعجوبة من ذلك الزلزال. في الصباح لم تقل ميرا شيئاً. كانت صامتة فقط، وبعد وقت قليل قالت ان ابنها الذي يعيش في منطقة ليست قريبة نسبياً من منطقة الكارثة سمع في الليل صوتاً غريباً فخرج من منزله ليفاجأ بأن البحر يقترب منه. وبلحظات سريعة جمع عائلته واسرع مغادراً، وفي الصباح اكتشف ان البحر اكل منزله واتى على كل شيء.