يومان لم تنقطع فيهما "ديفي" عن البكاء المر والنحيب. "ديفي" هي "البنت" السريلانكية التي تعمل لدينا كما يطلق اللبنانيون على السريلانكيات اللواتي يعملن في منازلهم. متزوجة وأم لولدين، في الثالثة والخامسة من العمر، خلّفتهما وراءها في عهدة زوجها العاطل عن العمل في تلك البلاد الجميلة كما يجهل معظم اللبنانيين والفقيرة، سعياً، هي وبنشت جنسها، وراء مئة دولار شهرياً، وغالباً ما يقتطع مكتب الاستخدام راتب الشهرين الأولين أو الشهور الثلاثة الأولى من أجرتهن عمولة على استقدامهن. بكت بحرقة فيما كنا نحاول مراراً وتكراراً الاتصال هاتفياً، من دون جدوى، بتلك البلاد المنكوبة بالزلزال. تمتمات غير مفهومة كانت تصاحب بكاءها. الأرجح انها كانت تلهج بالدعاء والتضرع الى الله، بلغتها الهندوسية، ان يكون طفلاها بخير. تبدّت لي، للمرة الأولى، أماً تشبه الى حد كبير أمي وزوجتي وأختي وجارتنا، وكل نساء العالم. "اكتشفنا" انها امرأة، كما كل النساء والرجال، تبكي وتحب وتقلق وتصلي... لم تعد "البنت التي عندنا"، كما الغسالة والثلاجة وبقية الأجهزة المنزلية "التي عندنا". نجحت، تحت هول المأساة، في فرض ايقاعها على حياتنا اليومية، حزناً وقلقاً، نحن الذين تعودنا فرض ايقاعنا على حياتها، فتنام وتصحو وتأكل متى أردنا. "ديفي" سريلانكية في لبنان وتعبير "سريلانكية" أو "اثيوبية" باتا مرادفين في القاموس اللبناني لكلمة خادمة، تماماً كما اللبناني والسوري والفلسطيني والمصري "سريلانكيون" في بلدان أوروبا، والسوداني "سريلانكي" في مصر ولبنان، وكما كل العرب "سريلانكيون" في بلاد العرب، وكما كل الفقراء المنتشرين في أصقاع الأرض. عنصرية معولمة، تماماً كما القلق المعولم الذي امتد من كولومبو الى بيروت، والذي عاشته عائلتي اللبنانية في الايام الثلاثة الماضية، على مصير طفلي "ديفي".