تنتاب الكثير من العراقيين مخاوف حقيقية من انتكاسة في الوضع الانتخابي في أحد فصوله، طبقاً للنظام الانتخابي المعقد الذي يعسر على المواطن العادي فهمه، عندما يتم إقرار القوائم الانتخابية على أسس دينية أو طائفية أو قومية، مما يهدد بويلات الانقسام والفرز وتعميق الشروخ، ويعجز عن بناء الدولة العراقية الثالثة بعد الملكية والديكتاتورية. وفي هذه الحالة لا تعكس القوائم التيارات السياسية والفكرية بمفهومها التعددي، فتتحول الانتخابات كارثة، ومشروعاً لصراعات دموية، نشهد اليوم بعض فصوله الكئيبة. القاعدة الانتخابية للعراقيين تضم 14 مليون ناخب، سيدلون بأصواتهم في تسعة آلاف مركز اقتراع، وتتنافس على أصواتهم حوالي 100 قائمة، تضم 7700 مرشح. وائتلفت تنظيمات وعشائر وشخصيات في تسعة قوائم، من بينها أحزاب مشاركة في السلطة حالياً، في مقابل ظهور 47 لائحة لأحزاب السياسية منفردة، لم تنجح في عقد تحالفات لخوض الانتخابات، في حين طرحت شخصيات مستقلة قوائم بلغ عددها 27. فبلغ مجموع الكيانات السياسية المرشحة لخوض الانتخابات أكثر من 270 كياناً، بينهم مئات المرشحين من سنة العراق في 10 مجموعات، أبرزها الحزب الاسلامي العراقي الأخوان المسلمون حيث قدم قائمته المكونة من 275 مرشحاً، أكثر من قائمة الأحزاب الشيعية المؤتلفة، للتنافس على شغل 275 مقعداً برلمانياً، وفي الوقت نفسه سيجري انتخاب 18 مجلساً بلدياً، وبرلمان اقليم كردستان، كما سيقترع العراقيون في الخارج في 12 بلداً، تحت اشراف المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة. وتتحمل مفوضية الانتخابات، بالتضامن مع القوائم المتنافسة، المسؤولية المباشرة عن إجازة الكيانات الحاملة لمشروع الفرز الطائفي والعرقي والمناطقي، والمعبر عنها في أنظمتها الداخلية، أو ممارساتها العملية التمييزية. فالمرجعيات الدينية والسياسية عليها أن لا تحجم نفسها في تقديم الدعم لقائمة دون أخرى، لأن المرجعيات لكل العراقيين، بل لكل الإنسانيين من محبي السلام، من دون أن تحصر نفسها ووجودها المعنوي القادر على فصل الأمور، كما شاهدنا في الأزمات، في مجموعة مهما كبرت. فالوطن يستوعب الطائفة، وليس العكس، والمعيار ليس طائفياً، بل إنساني وطني، كما أثبتت تجارب التاريخ الإنساني. والعراق الجديد ينبغي ان يؤمن بالتعددية السياسية الوطنية، وليس تفتيت القوى العراقية وتخندقها تحت مسميات دينية تعمق الشعور والانتماء الطائفي أو العرقي، مما يهدد بالاحتراب. فالانتظام في كيانات سياسية واجتماعية ودينية وطنية بعيدة عن سيطرة العقلية العنصرية أو الطائفية، حق مشروع وسمة حضارية، طبقاً للإعلان العالمي لحقوق الانسان، لتشكيل طيف سياسي وفكري عراقي متعدد يبنى على أنقاض فكر وممارسة الحزب القائد، كما ان حق المشاركة في إدارة الدولة مباشرة أو بالواسطة، من حقوق الانسان المشروعة. وتزداد حيرة المواطن أكثر، في كيفية اختيار واحدة من القوائم المتنافسة، خصوصاً عند الافتقار الى الثقافة الانتخابية، وفي ظل تهديدات أمنية، واحتمال تزايد الأخطاء الفنية من قبل المفوضية، كعدم وصول الاستمارة الانتخابية، أو قلة المراقبين في أقلام الاقتراع، والقصور في عدد الهيئات القضائية المشرفة... ويزداد الاضطراب حدة في حال انعدام البرنامج الانتخابي المفروض أن تطرحه كل قائمة، أو تقارب البرامج في التعابير اللفظية، في شكل لا يميز معه المواطن بين برنامج وآخر. والصعوبة تكمن في كيفية اختيار القائمة، ومنح الصوت الانتخابي الثمين، فيما يُعتقد إن الناخب سيبحث عن الشخصيات التي يعرفها، المدونة في قائمة ما، وأن ضمت القائمة شخصيات لا يتوافق معها، وله ملاحظات حولها، فكيف يعطيها ثقته على رغم عدم قناعته ببعض المرشحين؟ ولماذا يرفض بقية القوائم، وبموجب أي معيار؟ وهل اختيار قائمة يجعله يهرب من تأثير ضغوط عديدة أخرى، كالأصدقاء، والحملة الانتخابية، ووازع الضمير، والشعور الوطني، من دون أن يكلف نفسه قراءة البرنامج الانتخابي للقائمة إن وجد؟ كلها أسئلة مشروعة ستواجه المواطن في أول تجربة اقتراعية يخوضها. ومشاركة المسجلين للانتخابات، هي من دون شك أحد المعايير الأساسية التي تتحكم في قياس مدى المشاركة الشعبية في يوم الاقتراع، لذا فان القوائم الانتخابية الوطنية، وليست الفئوية، هي الأكثر عراقيةً وتعددية، والأقدر على التعامل والتفاعل مع الحياة البرلمانية، ومثل هذه القوائم تعتبر محركاً دافعاً للمشاركة الانتخابية، إضافة الى عوامل أخرى، كنزاهة الانتخابات والظروف الأمنية، وليس من المستغرب أن تكون نسبة المشاركة في يوم الاقتراع متدنية في منطقة، وعالية في أخرى، على رغم الضمانات الموعودة بتوفير أجواء انتخابية جيدة. ومن الملاحظات الجديرة بالاهتمام أن النظام الانتخابي الذي اختير بجعل العراق "دائرة انتخابية واحدة" فيه كثير من التعقيد، وينبغي تطويره، بعد أن يخوض تجربته الأولى، أو حتى استبدال نظام آخر به، كتقسيم العراق الى دوائر انتخابية يجري الاقتراع العام المباشر من خلالها، أو نظام غير مباشر يعتمد على انتخاب المندوبين، أو نظام المجمعات الانتخابية... ففي ظل النظام الحالي يصعب على الناخب أن يعرف من هم أطراف المعارضة البرلمانية التي يعتبر وجودها ضرورياً ويعد أول شروط الديمقراطية لمنع تغول الحكومة وتسلطها، وبالتالي، تحولها الى نوع مهذب من الدكتاتورية. والنظام الانتخابي الحالي لن يفرز أحد المتغيرات المأمولة في الحياة السياسية العراقية، والمتمثل في بروز شخصيات سياسية قوية معروفة التوجهات عند العامة، تقود العمل البرلماني، بل يرجح أن يحتل مقاعد البرلمان شيوخ عشائر ومتشددون يرتكزون في نشاطهم على العصبية، مستفيدين من نفوذهم في القائمة الانتخابية، أو من شهرة اكتسبوها من ترديد الفضائيات والاعلام الموجه لأسمائهم، ومثل هؤلاء لا يستطيعون بناء الحياة البرلمانية ودولة القانون، ويهيئون أنفسهم للتفاعل موقعهم من السلطة إما لزيادة حصتهم باعتماد مقولة حقوق الأكثريات والأقليات والمظلومية، أو عبر الاتجاه الى العنف بدعوى مواجهة التهميش والإقصاء. ويقابل ذلك انخفاض في عدد الشخصيات الأكاديمية والتكنوقراط وأبناء الطبقة الوسطى، باعتبارهم حوامل اجتماعية للديمقراطية وليسوا هواة سياسة وألاعيبها ممن نهلوا علمهم السياسي من خلال الحلقات الحزبية السرية، التي تتصف غالباً بضعف شديد في الثقافة السياسية العامة خارج نطاق الحزب، خصوصاً إذا كان أيديولوجياً. وربما يشير رجحان القيادات الاجتماعية الأولية التقليدية العشائرية والدينية الى سيطرة العقلية النفعية والفئوية ذات المصالح الضيقة، خصوصاً أن بعضها جزء من أدوات السلطة السابقة، مما يخشى معه أن تتمكن تلك القوى والفئات من التماهي مع ممارسات السلطة الجديدة ومسايرتها أملاً في الحصول على مكاسب، مما يؤدي بالتالي الى سيطرة السلطة الجديدة على مفاصل القوة والتأثير في البرلمان والحكومة. تآلف تسع قوائم من أصل 107 يعني تباعد تلك الكيانات، وانتظام اغلبها في قوائم تتباين في الأهداف والشعارات والتوجهات والبرامج والشخصيات المرشحة، يعني تبايناً في القضايا المطروحة التي يواجهها العراقيون. وليس معروفاً كيف سيعاد تشكيل الكتل البرلمانية، بعد الانتخابات، وهل تبقى التحالفات على حالها أم يتم تطويرها لبناء استراتيجيات جديدة تسعى لحل المعضلات التي تواجه العراق، كالمشكلة الأمنية وموضوع الفيديرالية ومسائل الحكم والسلطة والعلاقات الخارجية... كما ليس معروفاً كيف سيجري احتواء الفئات المتشددة والعشائرية والشخصيات ذات المصالح الضيقة وتلك التي لها إمتدادات خارجية، وتطويعها وإخضاعها للأساليب الديمقراطية. مما لا خلاف حوله أن الانتخابات ستحدد مستقبل العراق، معتمدة على التحالفات السياسية والاصطفافات الحزبية داخل القوائم المتنافسة، والفائزة بمقاعد نيابية، وما ستفرزه حركة الأداء البرلماني، وعلاقته بالحكومة المقبلة. ولانعدام توافر معلومات يسيرة، لا يمكن إجراء مقاربة لشبكة العلاقات داخل كل قائمة، واكتشاف عوامل التجاذب والتنافر بين المرشحين البرلمانيين مستقبلاً، لبناء تصور عما سيؤول إليه الوضع السياسي الجديد، المرتكز أصلاً على مبدأ التداول السلمي للسلطة، ومراقبة الأداء الحكومي، ووضع الدستور الدائم، ورسم خطط إعادة بناء العراق، وتحقيق التنمية.... نظام القوائم الانتخابية، وتنافسها على دائرة واحدة، تجربة أولية تستحق إنجاحها، ولكن أيضاً تطويرها على قاعدة الصوت الحر، ولكل فرد صوت، ضمن دوائر انتخابية متعددة تتنافس فيها الأحزاب والتنظيمات السياسية بعد أن تنجز حواراتها، بهدف الاندماج لتكوين أحزاب كبرى تعبر عن تيارات سياسية واجتماعية متنوعة، كي تلعب الدور الرئيس في قيادة الحياة السياسية العراقية. * باحث عراقي في حقوق الانسان.