مثل كل شيء آخر في الحياة يرتبط الشعر بالاسطورة التي تنسجها الحياة حول الشاعر. غالباً ما لا يكفي ان يكون الشاعر عظيماً ومعروفاً في زمنه حتى يواصل حضوره في ذاكرة المستقبل التي لا تعرف الرحمة في محوها للأسماء التي لم تمتلك ما يمكن أن يظل حياً ومؤثراً بعد أجيال أو قرون. وهنا يأتي دور الأسطورة التي تدخل في الضمير العام وتضفي على الشاعر ألقاً عاطفياً يجعله حاضراً بيننا حتى بعد غيابه عنها، فترة قد تقصر أو تطول. ولعل الاسطورة الأكثر شيوعاً في تاريخ الشعر هي الأسطورة التي تبنى حول الموت المبكر للشاعر. فمثل هذا الموت لا يشعرنا بالأسى وحده وإنما يجعلنا ننظر الى المنجز الشعري من خلال الفقدان. لا شك في عظمة شعراء مثل لوتريامون ورامبو وكيتس وشيلي وبايرون وامرئ القيس، ولكن موتهم المبكر أضفى على أعمالهم بعداً اسطورياً اضافياً لا يمكن أن تمتلكه أعمال الذين يظلون يعيشون حياتهم حتى نهايتها وفي هذا يشبهون البروق التي تضيء لحظة ثم تنطفئ، فلا نتذكر نحن الباقين في الظلام سوى ومضاتهم القصيرة. وهنا لا يمكن أن نقرأ أعمال الشاعر بدر شاكر السياب الآن، وهو شاعر كبير وعظيم حقاً، بعيداً من الأسطورة التي ارتبطت بحياته، وهي اسطورة لا تستمد قوتها من موته المبكر في العام 1964، وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، فحسب وإنما أيضاً من مرضه الذي جعل الكثير من شعره أشبه ما يكون برثاء للذات، يندر أن نجد ما يشبهه عند أي شاعر معاصر آخر. حياته كلها كانت في الحقيقة أقرب الى المأساة منها الى أي شيء آخر. فقد حرم من الحب دائماً. أحب الكثيرات، لكنه لم يجد امرأة واحدة تبادله حبه. وعلى رغم انه أفلح في أن يشق طريقه في الكوخ الذي أمضى فيه أعوام طفولته وصباه في قرية جيكور القريبة من البصرة والتي زرتها للمرة الأولى عام 1969 وشهدت البؤس المحيط بها، الى الكلية في بغداد، وهو أمر كان يفترض أن يضمن له معيشته، فإنه أمضى معظم حياته في فقر مدقع. فقد فصل من عمله كمدرس في العهد الملكي لانتمائه الى الحزب الشيوعي، مثلما فصل مرة أخرى بعد ثورة 14 تموز يوليو عام ،1958 بتهمة الرجعية، مما دفعه الى الانتقام من الشيوعيين بطريقة مسفة حينما نشر مذكراته لتي تفتقر الى المستوى الثقافي والأخلاقي في جريدة"الحرية"المقربة من البعثيين حينذاك. وحينما تبنته مجموعة مجلة"شعر"اللبنانية المعروفة بمواقفها الليبيرالية فقد ثقة القوميين به. يروي يوسف الخال عنه انه كان يمضي نهاره معهم ثم يشتمهم في المساء حين يلتقي سهيل إدريس في مجلة"الآداب"المعروفة باتجاهها القومي. في الحقيقة، كل ذلك لم يكن يعني شيئاً بالنسبة إليه، فهو في كل تحولاته تلك لم يكن سوى ضحية بؤس الأوضاع السياسية التي وجد نفسه في خضمها، إذ كل ما كان يتوق اليه في حياته هو أن ينجو بجلده من المحرقة. حتى الشعر لم يكن في نظره سوى دفاع عن نفسه. ولم يكن يملك الدهاء الذي يجعله بمنجى من الأذى، فضلاً عن سذاجة تربيته الريفية وشعوره العميق بالانسحاق. فالشاعر الذي فتح أمام الشعر العربي طريقاً جديداً لم يكن يتوانى عن أن يمتدح الزعيم عبدالكريم قاسم بقصيدة عمودية، لتبرعه بدفع نفقات علاجه في بريطانيا، ثم يشتمه بقصيدة عمودية أيضاً بعد أيام من سقوطه، آملاً في أن ينال رضا الحاكمين الجدد. ولكن لا ينبغي لنا الآن ان نحاسبه على مثل هذه المواقف التي تشكل أيضاً جزءاً من اسطورته، بقدر ما ينبغي لنا أن ندرك مأساته كشاعر كبير في مجتمع تنعدم فيه كل الحقوق والقيم. معظم ما كتبه السياب، وبخاصة في مرحلة مرضه الأخيرة يقوم على الشكوى من جور الزمان عليه وغدره به، مستدراً عاطفتنا نحوه. ولا شك في أن مثل هذه البكائية الذاتية في مجتمع مثل المجتمع العراقي الذي ارتبط تاريخياً جزء كبير من ثقافته الشعبية بالبكاء الكربلائي، فضلاً عن الشعور بخيانة القدر له دائماً، جعلت السياب يمس أكثر من أي شاعر آخر الوعي الشعبي العام للمجتمع العراقي، كناطق باسم قدر لا يرحم. وعلى رغم كل مسعى السياب ليبدو شاعراً عصرياً وحداثياً، فإن روح شعره تظل شعبية في الجوهر وعفوية، ذلك أنه في نهاية الأمر شاعر فطري أكثر من كونه شاعراً ثقافياً، على رغم إرهاق بعض قصائده بالرموز الاسطورية الاغريقية، تحت تأثير الموجة الإليوتية فهو حتى في أفضل قصائده مثل"أنشودة المطر"و"المسيح بعد الصلب"يصور المأساة التي تقوم فكرتها على الشكوى، لا على التحدي، على الندب، لا على نسف الماضي والحاضر الملغوم بالكوارث والايحاء بيوتوبيا انسانية جديدة، كما فعل شعراء من أمثال ناظم حكمت ونيرودا وألين غينسبرغ. وبالطبع، فإن قوته تنبع من لغته الشعرية، وهي لغة شاعر كلاسيكي في الأساس، فضلاً عن غنائيته العالية التي تتطلبها مثل هذه الرؤيا الى العالم. ومع ذلك، فإن الشعر العربي مع السياب وبعده صار غير ما كان عليه قبله. هو الأول الذي فتح الباب المغلق لجميع الشعراء الذين دخلوا البيت بعده واكتشفوا ما فيه. لقد مضى الآن على رحيل السياب أربعون عاماً وما زال حياً بيننا، وهو ما لا يمكن أن نقوله عن أي شاعر آخر من معاصريه الذين مات بعضهم منذ زمن وهم لا يزالون بيننا يعرضون بضاعتهم علينا. وعلى رغم ان جان بول سارتر يشترط مرور قرن على الأقل على رحيل الشاعر أو الكاتب حتى نتأكد من قدرته على البقاء، فإن السياب بأسطورة حياته التي عكسها في شعره يظل الشاعر الأكثر قدرة على أن يكون شاعر القرن العشرين العربي في ذاكرة المستقبل. أكيد ان كثيراً من قصائدة ستمحوها يد الزمن وتُنسى، مثلما سيغفر له ابناء المستقبل هفواته وهشاشته الفكرية، لكن بضع قصائد عظيمة من شعره، مثل أي شاعر عظيم آخر، ستكون كافية لأن تضمن له الخلود.