بدت صورة محمود أحمدي نجاد وهو يخطب جمعاً من بضع عشرات من العلماء المعممين (بعمامات بيض معظمها) غداة خطبة علي خامنئي، في 19 حزيران (يونيو)، وحسمه الرأي في انتخابات 12 وتزكيته «التلميذ الصغير»، على ما وصف الرئيس المنتخب نفسه، وفوزه - بدت الصورة غريبة بعض الشيء. فجنرال الحرس الثوري السابق، وعضو استخباراته وجهازه العملي والتنفيذي، على زعم نمساوي متجدد، لا يقف خطيباً، بعد فوز متنازع، في من يفترض فيهم انهم قاعدته السياسية و «الاجتماعية» والإيديولوجية، وأمثاله وزملاؤه. وليس من يقف موقفه في العلماء المعممين هو من يفترض فيه انه زميلهم، ومن مرتبتهم «علماً» وفقهاً وتدريساً، وهو آية الله (العظمى، على سبيل الاختيار) علي خامنئي. وعلى رغم ان خامنئي رئيس اركان فقهاء الجمهورية وعلمائها، لم يخص ضباط الحرس والشرطة والجيش والاستخبارات بخطبة غير تلك التي قرأها على مصلي الجمعة بطهران. فهو برز على شاكلة قائد «اجهزة القوة»، على قول روسي يخصص أدوات القمع بالتسمية والوظيفة. والمرشد ومرجع الفقه والتقليد في دولة تنتسب الى دين وإيمان واعتقاد، قصر كلامه الفصل، بحسب ما ينص الدستور على مرتبته، على شؤون «سياسية»، والأصح على شؤون إدارية إحصائية وإجرائية وبوليسية. فلم يحتج، ولم يقارع الحجة بالحجة، والمنطق بالمنطق، والبرهان بالبرهان. فتوعد وتهدد و أنذر وخوف. فكان قوله قول ضابط أمن، من الحرس أو من الباسيج، وليس قول مدرس مجتهد، يحاضر في السطوح والخارج وفي مبادئ استنباط الأحكام، على قول الإماميين في علمائهم وطلبتهم. ولا نعلم ما قاله محمود احمدي نجاد وهو يخطب جمهوره من الحاج والأغوات، على ما يسمي الإيرانيون معمميهم. ولكن ما لم يفت المعلقين ملاحظته هو إحجام كبار العلماء ومدرسي الحوزات بقم ومشهد وشيراز ويزد، الى طهران، عن الخوض في انتخابات الجمهورية «الإسلامية» التي تستظل علمهم وفقههم و «قيادتهم»، ويتبوأون في مجالسها الانتصابية (الرقابية) مراتب الحسم والبت. وكان مير حسين موسوي ناشد العلماء الكبار، مساء 12 حزيران، وحال مبادرة بعض اجهزة السلطة الأمنية والإعلامية إلى إجراءات وإعلانات أظهرت خروجها عن التحفظ وميلها الى الرئيس الحرسي والأمني-، تركَ انزوائهم وصمتهم غير المعتاد، والإدلاء برأيهم فيما يحصل ويُفتأت. وبعض منه، إن لم يكن معظمه، يحصل باسمهم ويستقوي بولايتهم وفقههم. وأدرك بعض المراقبين ان الغرض من مناشدة موسوي العلماء هو تلافي دعوة الناخبين المقترعين الى التظاهر، وحماية اقتراعهم وأصواتهم من مصادرة اجهزة وزارة الداخلية، وأجهزة القوة الأخرى لها. ولكن علماء الحوزة «الناطقة»، والجهورية النطق، على ما دعاها إليه روح الله خميني وثنّى على دعوته نجل محمد باقر الصدر العراقي ، لزم معظمهم الصمت. وتركوا، ما خلا آية الله صانعي وحسين منتظري «المعتقل»، عشرات الملايين من المقترعين الإيرانيين، المسلمين، وجهاً لوجه وعشرات الآلاف من «الخالدين» (اسم فرقة الحرس الشاهنشاهي والامبراطوري الخاص) الجدد. وهم أحجموا عن الكلام، رأياً غير ملزم أو فتوى، وعزفوا عنه. ولم يعلنوا تأييدهم المرشد، من وجه آخر، ربما تفادياً لظهورهم، أو ظهور مكانتهم ودورهم على حقيقتهما الضعيفة والهزيلة. فالجمهورية «الإسلامية» ناطت بعلم العالم الفقيه صفته الدينية المفترضة، وأرست على العلم هذا وصل ما انقطع من حبل الإيمان والرأي الصحيح والسديد. وهي تولت جسم العلماء وسلكهم وهيئتهم، وخشيت انقساماتهم، وتحفظهم، وانصراف معظمهم عن وعودها لهم. ولم ينفع هذا كله. فجاء انتخاب رئيس بلدية طهران (يومها)، والحرسي الاستخباري، الغامض الدور والماضي والسيرة، وهو أول «مدني» غير معمم يتبوأ منصب الرئاسة، جاء ايذاناً بتردي مرتبة العلماء بين مراتب الجمهورية وبضعفها. وصمَمُ العلماء، اليوم، عن نداء «المدني» موسوي، وفي صفه خاتمي ورفسنجاني من زملائهم الى منتظري، وإحجامهم عن التورط في تأييد خامنئي، ولزومهم صمتاً موارباً، قد تكون من القرائن على إدراك العلماء، جسم الجمهورية «الإسلامية» الأول وعلمها على هويتها المفترضة، ضعفَ مرتبتهم، وتقدم المراتب الأخرى، الأمنية والعسكرية والتعبوية والاقتصادية، عليها. واستباق خامنئي، ووزارة الداخلية، الاحتكام الى مجلس صيانة الدستور الذي يبت في الترشح الى الانتخابات، وإلى مجلس الخبراء الذي يراقب أعمال الهيئات وفي مقدمها المرشد نفسه، والعلماء هم الشطر الراجح من هيئات المراقبة والنظارة والحسبة - الاستباق هذا قد يكون عبارة عن «نقل» خامنئي ولاءه، أو التماسه عوامل قوته من الهيئات الدستورية الى اجهزة القوة. وبعض هذا، مقدماتُه في سياسة محمود أحمدي نجاد، وفي النهج الذي توجه احمدي نجاد، وأعانه على تتويجه خامنئي في 2005. فالميل الى حماية النظام «الإسلامي»، اي الخميني، من طريق سياسة ردع نووي حازمة ومغامرة، وبواسطة طوق من المنظمات العسكرية والأمنية الموالية، على مثال «حزب الله» و «حماس» و «لواء بدر» السابق واللاحق، والمبادرة الى حروب اختيار واستنزاف إقليمية، تقتضي سلطة مركزية متماكسة ومرصوصة في الداخل والخارج معاً. ولا يتفق المقتضى المركزي العسكري هذا مع كثرةِ الهيئات الرقابية، وربما تنازِعها، المتخلفَيْن عن الحركة الشعبية و «الجمهورية» التي حملت فقيه قم الى قيادة إيران. فمهمة قيادة الدولة الإقليمية التي تتوق الى «العظمة» تشترط من غير شك تمتعها بمشروعية «إسلامية» متينة. ولكن حماية الدولة هذه، في الداخل والجوار، لا تقع في المرتبة الأولى على عاتق الجسم العلمائي. وانقساماته لا تؤهله للاضطلاع بحماية الدولة او النظام. وعلى هذا، فالانتخابات على صورتها السابقة، واحتكامها الى منافسة حقيقية على رغم تصفية المرشحين، لم تبق الشكل الأمثل ل «إنتاج» قيادة مشاغلها العسكري والأمنية غالبة. فينبغي ألا تكون الانتخابات مرآة قيادة مركبة، أو منقسمة في الداخل، شأنها في الخارج. وهذا برنامج المرحلة القادمة. ولكن ربما بعد فوات الأوان. فالإيرانيون ثلموا الصورة الحرسية، وأظهروا الانقسام في قلب «الامبراطورية» الإقليمية. فليس المتظاهرون والمتظاهرات وحدهم في ورطة. وقد تكون ورطة اركان الحرس والباسيج وأجهزة القوة أشد وأقسى وأبأس عاقبة. * كاتب لبناني