يؤثر الروائي المصري جمال الغيطاني ان يطلق على أعماله الأربعة الأخيرة الصادرة عن "روايات الهلال" اسم "دفاتر التدوين" في حين ان الجهة الناشرة آثرت ان تضع تلك الاعمال تحت باب الرواية. والحقيقة ان اللبس ناجم عن طبيعة تلك الدفاتر التي هي مزيج فريد من الرواية والسيرة الذاتية والقصص القصيرة، وهي في الوقت ذاته تختلف الى حد بعيد عن كل واحدة من هذه الانواع الأدبية. إنها نوع من الكتابة التأملية والاسترجاعية التي تتقصى الحياة في تكوناتها الأولى وأبجديتها البكر ودبيبها السري. ففي الدفتر الأول "خلسات الكرى" احتفاء بالمناطق المختلطة بين الحقيقة والمجاز أو بين الحلم والواقع، وفي الثاني "دنا فتدلّى" التقاط للحظات النادرة التي يشرعها السفر في القطارات على الأبدية. وفي "رشحات الحمراء" محاولة حثيثة لرصد المفاتن النورانية للحبيبة الأولى والتي تحوّل كل امرأة لاحقة الى مجرد تنويع على الأصل الأنثوي. يتابع الغيطاني في الدفتر الرابع "نوافذ النوافذ" ما كان بدأه في الدفاتر الثلاثة الأولى متناولاً هذه المرة فكرة النوافذ بأبعادها المكانية والدلالية وأثرها في تكوينه الحياتي والنفسي والأدبي. فالنوافذ عند صاحب "التجليات" و"الزيني بركات" تتعدى إطارها الجغرافي المحض لتصبح فضاء شبه وحيد لعلاقة الجسد بامتداداته والعين بحيّزها البصري والشهوة بمادتها الأرضية والخيالية والكتابة ببعدها الرؤيوي. والمؤلف الذي يشير الى نوافذ مماثلة لدى رسامين شهيرين من أمثال ماتيس الفرنسي وماغريت البلجيكي وهوبر الأميركي يرى ضالته بوجه خاص في نوافذ هذا الأخير حيث النافذة فضاء للاتصال أو للعزلة، للامتلاء أو للفراغ وللشغف كما للغسق. وفي لوحة ادوارد هوبر المثبتة على غلاف الكتاب ما يتصادى مع الكثير من نوافذ الغيطاني التي أشار اليها في غير فصل من فصول الكتاب. فالنافذة هنا هي المستطيل الفراغي الفاصل بين الحجرة المضاءة في الداخل وبين عتمة الخارج المسكونة بالترقب والعزلة والشهوة المختلسة. لم يظهر من المرأة المنحنية في ضوء الحجرة والتي تدير ظهرها الى النافذة سوى الذراع والساقين المكشوفين والردفين المستورين بثوب قصير شفاف. يبدو الجسد من خلال النافذة بلا وجه ولا رأس. انه جسد صرف أو جسد للتلصص واستراق النظر. وهو بذلك يشبه الى حد بعيد تلك الاجساد التي كان يروق للمؤلف ان يشاهدها من نوافذ طفولته الأولى والتي أمدّته بأسباب التخيل والتهيؤات الايروتيكية على امتداد عمره. ثمة أنواع عدة من النوافذ التي يستعيدها الغيطاني في كتابه الأخير، بدءاً من نوافذ البدايات والفزعات والرغبة وصولاً الى نوافذ السفر والظهور والروح. لكنها جميعاً تشترك في كونها المساقط الأم للحياة واللغة والشهوة والخوف والاتصال بالآخر، وهو ما يختزله قول المؤلف: "تتصل النوافذ عندي بالرغبة لأنها مفضية الى الآخر، الى الجانب المقابل. لا أرى انني ممن لفتن نظري الا عبر نافذة. فإما مفتوحة أطل منها عليها مباشرة، وإما مواربة أختلس وألغي المسافات بالمخيلة، وإما مغلقة على حجرة ننفرد بها. كل نافذة مؤدية بالضرورة إما الى معرفة أو كشف. كل نافذة اتصال تجاوز لما نعرفه الى ما نجهله". يستطيع القارئ ان يقرأ نوافذ الغيطاني كلاً على حدة ويستطيع ان يقتفي أثرها المتنوع في سياق العمل برمته. ففي "نوافذ البدايات" إطلالة على الخيوط الأولى لذلك الضوء الذي راح يلمع بشدة قبالة الطفل الذي كانه المؤلف ممهداً أمامه طريق التعرف البريء الى الجسد الأنثوي. وبانتقاله من زقاق الى زقاق ومن حي الى حي كانت ترتسم عبر نوافذ حياته المتنقلة قصاصات أجساد وروائح شبق ووجوه هلامية الملامح لمن سيظهرن في ما بعد من خلال الفصل المتعلق بنوافذ الرغبة. وليس صدفة ان يكون ذلك الفصل هو الأطول بين فصول الكتاب لأنه ينفتح على مدن وقرى ومنازل ومشاهدات كثيرة تحفل كل منها بالعديد من النساء اللواتي أتحْنَ للجسد الأنثوي ان يطل بكامل بهائه من خلال النوافذ المفتوحة أو المواربة. "يا خوفي تكون ممن يحب البعيد" يقول المؤلف على لسان احدى بطلاته، ويعترف في الوقت ذاته بأن البعد المكاني كما الزمني يتيح للمتعة ان تتشكل في دائرة التوهم والحلم لا في دائرة الحقيقة العارية. يتدفق في "نوافذ الفزعة" سيل مماثل من المشاهدات والوقائع المتصلة هذه المرة بحوادث الاغتيال والقتل، من مثل ذلك الرجل الذي رأى من نافذة الفندق مشهد اغتياله المرعب في الترعة المجاورة، أو مشهد الجنس المتبوع بالقتل زمن حرب بيروت الأهلية، وليس غريباً ان يتألق أسلوب جمال الغيطاني تمام التألق في "نوافذ السفر" حيث تتفتح نيران الرغبة المتبادلة بينه وبين نساء عديدات لم يرهن الا عبر نوافذ السيارات والعربات المتعاكسة والقطارات الهاربة. فتلك الانجذابات السريعة والضارية للنساء المتواريات ليست سوى المعادل الرمزي للكتابة نفسها حيث يلبس الزائل لبوس الأبدي وحيث يتسمر الجمال كالتماثيل في فضاء الخسارات المتجددة.