مرت قبل أيام الذكرى العاشرة لتوقيع معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل. ومما يُذكر أن توقيع المعاهدة كان رافقه نوع من التفاؤل على الجانب الادني لأنها أدت الى فك العزلة الاقليمية والدولية التي فُرضت على الأردن نتيجة موقفه من حرب الخليج الثانية. والأهم أن الأردن استطاع ان يرسم حدوده مع إسرائيل واضعا ًحداً لفنتازيا اليمين الإسرائيلي بأن "الأردن هو فلسطين". هذه كانت التقديرات السائدة يومها في عمان حيث سارع رئيس الوزراء الدكتور عبدالسلام المجالي الى الاعلان عن ان معاهدة السلام قد دفنت فكرة "الوطن البديل" الى الأبد. الا انه وبرغم النوايا الحسنة لدى الجانب الأردني، وبالتأكيد لدى اسحق رابين، فان تطور الاحداث في منتصف التسعينات أدى، في نهاية الأمر، الى سلام بارد. فبعد ما يمكن وصفه بشهر العسل في العلاقات الثنائية ابان عهد رابين، أخفق البلدان في تطوير "نموذج" للسلام يُحتذى به. وبشكل كبير ساهمت مجموعة من التصورات الخاطئة وسؤ الفهم لدى الجانب الإسرائيلي ولكن أيضاً على الجانب الأردني الى حد ما في تعقيد العلاقة الثنائية. فأولاً، أخفق الإسرائيليون في الفهم والتعاطي الايجابي مع الطبيعة المعقدة للسياق الاقليمي الذي كثيراً ما يحدد هامش المناورة الأردني. هكذا استمرت إسرائيل بأسلوب ممنهج في التملص من التزماتها نحو عملية السلام برمتها. وهذه الحقيقة أضعفت قدرة الأردن على مقاومة المزايدات العربية. فالعرب بمن فيهم مصر التي وقعت معاهدة سلام قبل الأردن بعقد ونصف العقد كانوا منتقدين لتسارع وتيرة العلاقات الثنائية الأردنية الإسرائيلية، وكان مفاد الهاجس العربي ان وتيرة كتلك ستخلق ميزانا استراتيجيا سلبيا بالنسبة للعرب تستفيد منه إسرائيل بالتحديد. ومن دون شك فرغم ان منتقدي العلاقات لم يوضحوا كيف سيكون ذلك، لم يستطع الأردن مجابهة المزايدات العربية الكثيرة في ظل تهرب إسرائيل من التزماتها. وأدى صعود اليمين الى الحكم بقيادة المتشدد والمتهور نتانياهو الى تفاقم الامور. فقد فشل القادة الإسرائيليون في فهم الحساسية الأردنية للسياق العربي، ولم يفهموا استحالة فصل العلاقة الثنائية بين الأردن وإسرائيل عما يجري على المسار الإسرائيلي الفلسطيني. وعمل سؤ االفهم الإسرائيلي للنقطتين أعلاه كمحفّز لمجموعة من السياسات الإسرائيلية الاستفزازية التي تبناها نتانياهو الذي لم يكن في ذهنه، لدى بلوغه السلطة، الا تخريب عملية أوسلو. وبالتالي لم يستبطن نتانياهو واليمين المتحالف معه مركزية القضية الفلسطينية في السياسة الأردنية، ومن هنا اتخذ مجموعة من الاجراءات المتهورة التي كانت سبب احراج لعمان. فمثلاً، أوعز بفتح النفق في القدس بعد ثلاثة أيام على مقابلة الملك الراحل حسين لمستشاره دوري غولد. وفي المقابلة هذه لم يذكر غولد كلمة واحدة حول النفق، الا ان التوقيت أعطى انطباعا خاطئا بان الأردن على علم مسبق بالموضوع. هكذا انخفضت ثقة المك بنتانياهو الى الحضيض. والحادثة الاخرى كانت إيعاز نتانياهو للموساد بتنفيذ المحاولة الفاشلة لاغتيال رئيس مكتب حماس في عمان، والذي كاد ان يفقد حياته لولا الموقف الصارم الذي أبداه الملك. فقد هدد الأردن باقتحام السفارة الإسرائيلية في عمان والقاء القبض على احد المتهمين اذا لم يتم إرسال العلاج اللازم. وهذا ما تم فيما تعهد نتانياهو بأنه لن يكرر الأمر ثانية على الأرض الأردنية. وقد انتزع الأردن ثمنا عاليا تمثل باجبار إسرائيل على اطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين، ثم جاء نتانياهو وشارون للاعتذار من الملك الذي رفض مقابلتهما فاكتفيا بلقاء سريع مع الأمير حسن. والأزمة الثالثة التي تفجرت إبان حكم نتانياهو كانت حول المياه. فبعد ان عانت إسرائيل من نقص شديد، ترددت في تزويد الأردن بها بموجب ما نصت علية اتفاقية السلام. وكان نتانياهو يؤمن بضرورة فتح الملفات مرة بعد مرة لإعادة اجراء التفاوض. الا ان صرامة الموقف الأردني أجبرته على استئناف ضخ المياه. ومن سخريات القدر ان الذي أبدى ايجابة كبيرة في التعامل مع موضوع المياه كان شارون الذي كان وزيراً للبُنى التحتية. الا ان نتايناهو لم يستمر في الحكم وتم انتخاب باراك الذي اثبت انه لا يختلف كثيراً عن سابقه. وسرعان ما أدت سياسات باراك الى اندلاع انتفاضة الأقصى، الأمر الذي وضع العلاقات الأردنية الإسرائيلية في برودة شديدة. مع ذلك فمعاهدة السلام حولت الأردن الى لاعب مؤثر في عملية السلام. فهو حقق بعض الانجازات حتى في فترة حكم نتانياهو اذ استطاع توظيف المعاهدة لخدمة القضية الفلسطينية بالرغم من سؤ ادارة القيادة الفلسطينة للصراع والسلام على حد سواء. فقد أدى تدخل عمان الى توقيع برتوكول الخليل في كانون ثاني يناير 1997 واتفاقية واي ريفر في تشرين الثاني نوفمبر 1998. وأدى تدخل الأردن واعتمادة الديبلوماسية النشطة الى تضمين مبادرة بيروت الشهيرة كواحد من أسس الحل الذي استندت اليه خريطة الطريق. الا ان الموضوعية في التحليل تتطلب ان نلقي الضوء على الاخفاقات الأردنية. فقد أخفقت الحكومات المتعاقبة في اقناع الشعب بتأييد المعاهدة. وبيّن أحد استطلاعات الرأي ان اكثر من 80 في المئة من الأردنيين يعتبرون إسرائيل دولة "عدواً". فلم يتم شرح عوائد السلام بشكل كافٍ لشعب لم يُتح له أن يدرك عوائده. فمثلا قامت الولاياتالمتحدة بشطب اكثر من 700 مليون دولار بعد تدخل مباشر من رابين، كما رفعت مساعداتها للأردن وتم فك العزلة عنه فيما يعمل في المناطق المؤهلة صناعياً الآن اكثر من 20 الف أردني. كل هذه العوائد الضخمة نسبيا اذا ما نظرنا الى صغر حجم الاقتصاد الأردني، لم يشعر بها المواطن. وساهم في قلة التأييد اللجان المقاومة للتطبيع التي قدمت المعاهدة كخطوة سيئة في السياسة الخارجية الأردنية. وهذا كله قبل ان تنهار عملية السلام وتندلع الانتفاضة، ما أدى الى انعكاسات سلبية على العلاقة الثنائية وعلى مصلحة الأردن في حل شامل للصراع العربي الإسرائيلي. فاذا لم تتوقف السياسات الإسرائيلية الحالية ضد الفلسطينيين تم تقويض فرص الحل على أساس دولتين. والمصلحة الأردنية العليا تتطلب حلا كهذا لأن غيره يؤدي الى إحياء خيارات معادية للأردن.