يتسلم الشاعر محمود درويش يوم غدٍ الأربعاء جائزة الأمير كلاوس التي فاز بها لهذه السنة، في احتفال في القصر الملكي في هولندا يحضره أركان العائلة الهولندية الملكية. تبلغ قيمة الجائزة مئة ألف يورو. وتعد جائزة الأمير كلاوس أرفع جائزة ثقافية تمنح في هولندا. وجاءت الجائزة كفكرة من الأمير الراحل كلاوس، زوج الملكة بياتريكس، وهو ألماني الأصل لاقى صعوبات في بدايات زواجه من الملكة الهولندية إذ نفر منه الهولنديون نظراً لزواج رجل ألماني من ملكة هولندية. لكن كلاوس استطاع أن يفرض احترامه على الهولنديين ويثبت على إنسانيته الراقية من خلال الجائزة التي رصدها في حقول الآداب والفنون في العالم الثالث. وبررت لجنة تحكيم الجائزة فوز درويش بالجائزة الأولى للأمير كلاوس بالقول إنه استحقها لأشعاره القوية المعروفة على المستوى العالمي وهي تعكس حياته في المنفى والوطن وتعبيره عن تطلعات شعبه في وطن مستقل. وقالت إن اختيار درويش جاء انعكاساً للتوجه الجديد نحو النتائج الإيجابية للجوء والهجرة. هنا مقالة كتبها الكاتب الهندي أشواني سيث، المقيم في أمستردام، لنشرة مؤسسة الأمير كلاوس وهي تعكس توجهات المؤسسة وسبب منح الجائزة لمحمود درويش والآثار المترتبة على منحه الجائزة. يعد محمود درويش شاعر فلسطين الوطني، شاعر دولة فلسطين التي لم توجد بعد، صوت شعب أُخرس صوته ويشعر أنه منفي في وطنه ولاجئ داخل بلده. لكن درويش شاعر ذو قامة عالية، يحتل الصف الأول بين الشعراء العرب. وكما يقول الناقد السوري صبحي حديدي فإن "كثيرين من الناس في العالم العربي يشعرون أن لغتهم في أزمة" وليس من المبالغة القول إن محمود درويش يعد مخلصاً للغة العرب". في القاهرة أو في دمشق يجتذب درويش في قراءاته الشعرية آلاف الناس. وهذا غريب لشخص يقول إنه يفضل أن يكون في الظل لا تحت الأضواء. في واحدة من آخر قراءاته في بيروت توافد أكثر من خمسة وعشرين ألف شخص على ملعب لكرة القدم للاستماع الى شعره. وقد ضم هذا الجمع أطباء وعمالاً وربات بيوت وسائقي تاكسي وأكاديميين وأناساً عاملين في مهن أخرى مختلفة. لكن هذا الانتشار الواسع والرابطة القوية التي تربط الشاعر بشعبه يتعديان السياسة العابرة والموضة الأدبية، وتضرب عميقاً في الانتكاسات وحالات الاضطراب وعمليات الإقصاء والاضطهاد التي تمارس على نطاق واسع في زماننا المعاصر، وخصوصاً في فلسطينالمحتلة. ناضل درويش، الذي يتميز بشخصية مستقلة إلى حد بعيد، من أجل وطنه الأم فلسطين، وظل معارضاً عنيداً للاحتلال الإسرائيلي. لكنه، مثله مثل إدوارد سعيد، ناقد حاد لما يحصل في القارة العربية: "التي تغط في النوم العميق مستسلمة للأنظمة المستبدة"، وتحل عندها لعبة كرة القدم محل قضية فلسطين. على الصعيد النقدي ينظر إلى جمالية شعر درويش العالية والتركيب اللافت لعمله الشعري. ومع ذلك فإن قوة شعره تنبع من بساطته الغنائية، وإيقاعه المميز، وجماله، وسماته الأدبية المتفردة. ومع أنه مقدر على كل الصعد، فإن درويش لا يرغب في الثناء النابع من عاطفة التضامن، بل إنه كتب في نهاية ستينات القرن الماضي: "نريدكم أن تحكموا علينا كشعراء، لا كشعراء مقاومة". إن هويته كشاعر مضفورة بخيوط لا تفك عراها بنضالات شعبه الفلسطيني. وبسبب ارتباطه الحميم بشعبه فإن إبداع درويش، ومخيلته، وصوره، والمعاني التي تحملها كلماته، مرتهنة لكون شعبه الفلسطيني ما زال يتوق إلى الحرية المفتقدة. إن شعره، في موضوعات "ثيمات" الحب والصراع المنشبكة فيه بلا فكاك، هو نفسه رهينة حال الحصار هذه. أعترف أنني عندما قرأت للمرة الأولى أبياته الشعرية الناعمة التي يخاطب فيها أمه، فإن كل خاطرة مرت بذهني، كل جملة، أو سلسلة من الكلمات، مثلت بالنسبة إلي شوقاً لاحتضان الوطن واعتصاره. ولا بد من أن هذه الأبيات عنت لكل فلسطيني ما عنته لي، بل ما عنته لكل من قرأها. لكن درويش يتحسر، على النقيض مما تفيض به مشاعر القراء، قائلاً: "أشعر أحيانا أنني مقروء قبل أن اكتب. عندما أكتب قصيدة عن أمي فإن الفلسطينيين يظنون أن أمي هي رمز فلسطين. لكنني أكتب بصفتي شاعراً، وأمي هي أمي وليست رمزاً. إنني شاعر يكتب اعترافاً بسيطاً عن حبه لأمه، ولكن قصيدتي تحولت إلى أغنية جماعية. كل عملي يعامل كما عوملت تلك القصيدة. لكنني لم أقرر أن أمثل أحداً غير ذاتي. إلا ان تلك الذات محتشدة بالذاكرة الجماعية". وبالنسبة الى درويش فإن البحث عن الحرية الغائبة التي تقيد الخيال الشعري، كما تلقي بظلها على حياته الشخصية، بحيث أصبح "موضوع الاحتلال نفسه عبئاً باهظاً"، كما يعبر غاضباً. "أرغب، شاعراً وإنساناً، في أن أحرر نفسي من فلسطين، ولكنني لا أستطيع. عندما تتحرر بلادي، سأتحرر أنا كذلك". يمنح شعر درويش القوة للمتعبين والمحرومين، ويستعيد الفضاء المتخيل المتحرك، الذي يسمى الوطن، ويبعث الحياة فيه، إنه يحيي الشعور بألم الإحساس بالانقطاع المعذب عن مرايا الذاكرة المثلّمة، ويعيد إلى الحياة العواطف المهملة المدفونة في زوايا بعيدة منسية. إنه شعر الفقدان، والتوحد والأسى، والجهود المضيعة، لكنه أيضاً شعر الحقيقة، والأمل، والتصالح. بيد ممدودة على وسعها يعطينا درويش المفتاح. قبل موته أسهم إدوارد سعيد بقوة في محاولة الفلسطينيين المؤلمة لاستعادة هويتهم الوطنية في المنفى. "يحتاج هذا إلى إعادة تجميع الهوية وانتشالها من انقطاعات المنفى وتكسراته التي نعثر عليها في قصائد محمود درويش المبكرة، الذي يعد عمله الشعري جهداً ملحمياً لتحويل القصائد الغنائية المعبرة عن الفقدان إلى دراما رجوع أبدي مؤجل". إن شعر درويش يعيد بناء الأشياء ويبعث الحياة فيها، يتذكر ويذكر، ينقد ويتحدى، لكنه في الوقت نفسه يبحث عن سبل وفضاءات المشاركة، والمصالحة المبنية على الاعتراف المتبادل والقبول بعبء الحقائق التاريخية الخاصة بالوجود الفلسطيني، والتي يصعب تغييرها. إن نزع الصفات الإنسانية عن الآخر في المخيلة يمكن رده ببساطة إلى سياق تجارب الحياة التي ابتلعتها دائرة العنف الجهنمية. لكن درويش، وهو يتعرف على الجذور العميقة للغضب التي يغذيها الدم النازف في كل موجة من موجات الظلم والاضطهاد، يعمل في الوقت نفسه على رفع المتاريس والحواجز من دون أن ينكر وجودها أو يقوم بإخفائها عبر نوع من الاعتراف المتبادل بالجروح والتشوشات، والأحلام المتبادلة بالتعايش والسلام. في وداعه لإدوارد سعيد، صديقه ورفيقه في الارتحال والرؤيا، يعود درويش إلى الأيام الخوالي: وكان الزمان أقل جموحاً من الآن.../ قال كلانا:/ إذا كان ماضيك تجربة/ فاجعل الغد معنى ورؤيا!/ لنذهب،/ لنذهب إلى غدنا واثقين/ بصدق الخيال، ومعجزة العشب...". إن الرؤية المثالية واضحة هنا، فمحمود درويش يتخذ موقفاً شجاعاً من الحوار - مستعداً لسماع الآخر ومجادلته والاستماع الى آرائه ووجهات نظره - ولتمهيد الطريق بالتخلص من العنف الرهيب والأذى والألم المتخثر من خلال الاعتراف المتبادل بالحقائق والحقوق المنكرة الخاصة بالتاريخ الراهن للفلسطينيين. ينبغي أن يتم فهم حال الوطن الفلسطيني وقبولها عبر هذا النوع من التنافذ المتبادل. قلة من البشر قطعت هذا الطريق الصعب، لكن بعض الشجعان فعلوا ذلك. وقد احتضن إدوارد سعيد ودانييل بارينباوم القضية من خلال مشروعهما المشترك لتضييق الحدود بين الشباب عبر الموسيقى، وثمة مثال آخر جسدته أميرة هاس، الصحافية الإسرائيلية التي تخطت الحاجز الصعب وكتبت بأمانة وشرحت لشعبها الأوضاع الحقيقية ل"الآخر" من خلال العيش بين ظهراني هذا الشعب الآخر. ترجم الكثير من كتب محمود درويش إلى العبرية. في آذار مارس من العام 2000، اقترح وزير المعارف الإسرائيلي أن يتم إدراج بعض قصائد درويش في المقرر الاختياري لطلبة المدارس العبرية، لكن الحكومة الإسرائيلية قاومت هذا الاقتراح بعناد ورفضت إطلاع الشباب الإسرائيلي على كلمات الآخر. ومع ذلك فسيأتي وقت تزول فيه الحواجز، بجهود بناة الجسور وسيتبع الآخرون. عندما اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي مركز السكاكيني الثقافي في رام الله، حيث يدير درويش مجلته الأدبية الفصلية الرفيعة المستوى "الكرمل"، قام الجنود الإسرائيليون بالدوس على مخطوطاته ومخطوطات رفاقه الشعراء. "أعرف أنهم أقوياء وأنهم يستطيعون أن يهاجموا أي شخص ويقتلوه. لكنهم لن يستطيعوا كسر كلماتي واحتلالها. هذا هو صوت الممنوع من الكلام غير الهياب الذي يمكن سماعه على رغم لغو السياسيين وقعقعة السلاح". قبل فترة قصيرة قام محمود درويش بتنظيم زيارة لوفد من الكتاب البارزين في العالم، ومن ضمنهم بعض الحاصلين على نوبل للآداب مثل وول شوينكا، إلى فلسطين "ليروا بأنفسهم" ما يفعله الاحتلال. وهو ينهي خطابه الذي ألقاه عليهم في رام الله كما يأتي: "مرضى بما لا شفاء منه: الأمل. الأمل بالتحرر والاستقلال. أمل بحياة عادية فلا نحن أبطال ولا ضحايا. أمل بأن يذهب أطفالنا إلى مدارسهم بأمان. أمل بأن تلد امرأة طفلها حياً في المستشفى، لا أن تلده ميتاً على حاجز عسكري، أمل بأن يرى شعراؤنا جمال اللون الأحمر في الوردة لا في الدم، أمل بأن يعود لهذه الأرض اسمها الأول: أرض المحبة والسلام...". أعلنت مؤسسة الأمير كلاوس في هولندا قبل فترة قصيرة أنها منحت جائزتها الأساسية لعام 2004 الى محمود درويش. وأن يتم ذلك في هذه اللحظة التراجيدية التي يمر بها شعبه يجعل الأمر أكثر حدة وإثارة للمشاعر. كما أن اختيار مؤسسة الأمير كلاوس حق اللجوء والهجرة موضوعاً لجائزتها هذا العام يعبر عن رغبتها في جذب الاهتمام وتوجيهه إلى الإسهامات الإيجابية للمهاجرين والهجرة. وربما يكمن خلف هذا التوجه الحث على ضرورة مواجهة حملة كيل التهم والصور السلبية، في الأوساط الصحافية والسياسية، بمجتمعات المهاجرين في أوروبا، ومن ضمنها هولندا حيث تسود أخيراً مشاعر العداء للأجانب والمسلمين، والتي تروج بصفتها نوعاً من التعليق السياسي، إن الفتيات اللواتي يضعن مناديل على رؤوسهن يمنعن من دخول المطاعم، من دون أن يتعرض الذين يمنعونهن للمساءلة القانونية، وحيث تقيم الحكومة حواجز مخجلة للقبض على طالبي اللجوء والمهاجرين بصورة غير قانونية وترحيلهم، مع أن عمالتهم الرخيصة تستغل في الاقتصاد الهولندي على سمع المجتمع وبصره. إن الأهمية المحلية للجائزة قد تكون شديدة الدلالة، فمنح الجائزة الرئيسة للمؤسسة لمحمود درويش قد يؤدي إلى تكون وعي عميق والتحفيز على نشوء نقاش وجدل معمقين، وفتح الفضاءات والإمكانات لمواجهة التحيزات الضحلة والصور النمطية التي تلصق بالمهاجرين والإسلام. في الوقت نفسه فإنها ستلقي الضوء، ولو بصورة موقتة، على الوضع اليائس للشعب الفلسطيني من خلال تكريم شاعر يدعو إلى السلام والتعايش. قد تشكل الجائزة من ثمّ تدخلاً فاعلاً سيحدث بلا شك أثراً في هولندا، وفي الشرق الأوسط، ولربما على المستوى الدولي كذلك. بكلمات لجنة تحكيم الجائزة، التي تعكس بالفعل توجهات الأمير كلاوس نفسه، تجد "مؤسسة الأمير كلاوس من بين مهماتها لفت الانتباه إلى الأوضاع الصعبة التي يمر بها الفنانون والمثقفون... ففي الوقت الراهن من الضروري تماماً الوقوف إلى جانب أولئك الذين يناضلون سلمياً من أجل حرية الكلام وحرية التعبير الثقافي". وبصورة أكثر عمومية تعلن مؤسسة الأمير كلاوس أنها في منحها جوائزها "تولي اهتماماً خاصاً لما يسمى مناطق الصمت، تلك التي تحرم فيها الشعوب من الشروط السياسية والاقتصادية التي تمكنها من التعبير الثقافي عن نفسها". إن الشعب الفلسطيني عاثر الحظ، عالق في منطقة من مناطق الصمت، وهو صمت تكسره فقط البنادق الحاقدة المعبأة بالرصاص، والدبابات التي تسحق، وصيحات الانتقام التي تدعو إلى الأخذ بالثأر، وندب الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن وعويل النساء اللواتي ترملن حديثاً. في مناطق الصمت هذه، التي تصم الآذان وتجلب اليأس، ما الذي يستطيع المرء أن يفعله ليستعيد ذاته ويضفي بعض الملامح الإنسانية على الآخر؟ يقول محمود درويش إن "الشعر والجمال يصنعان السلام على الدوام. عندما تقرأ شيئاً جميلاً تجد التعايش، إنه يهدم الجدران والحواجز...".