فيما يحتفل العالم، في مشارقه ومغاربه، بالذكرى الأولى لرحيل إدوارد سعيد مركزاً على إبداعه ومنجزه الثقافي والفكري العميق، مقيماً حلقات بحث غنية في الجامعات البريطانية والأميركية والفرنسية، وحتى الكورية، وفي مؤسسات عدة في العالم تهتم بالثقافة وتعلي من شأنها تعيد قراءة أعمال إدوارد وأثره في ثقافة القرن العشرين، يعود بعض العرب بإدوارد سعيد، الكاتب والمفكر العالمي الذي نجد اسمه ومنجزه حاضراً بقوة في الموسوعات الغربية التي تؤرخ للنقد الأدبي والنظرية وعلوم الأنثربولوجيا ودراسة الآخر ونقد الموسيقى، إلى بعد الجغرافيا ومسقط الرأس فيه. إنهم يختزلونه إلى بعده المناطقي ويلحقونه ببني يعرب الذين يجهلون بالفعل مكانته النقدية والفكرية والثقافية الشامخة، ويظنون أنه كان يدافع عن العرب والمسلمين في وجه الآلة الإعلامية الغربية التي تشوه صورته! لكن مشروع إدوارد سعيد النظري والنقدي والفكري لم يكن دفاعاً عن ثقافة العرب وحضارتهم، بغض النظر عن الجوانب المظلمة في هذه الثقافة. يتلخص مشروع إدوارد في تفكيك الفكر الغربي، ونقد الخطاب الغربي الذي اخترع الآخر، الشرقي والعربي والمسلم، ليميز ذاته عن آخره الذي يقع في أدنى سلّم الحضارة، مبرراً حملته الاستعمارية على الشرق. ومن هنا عمل إدوارد سعيد منذ كتابه "بدايات" على قراءة منظور الغرب عن ذاته، وتحولات هذا المنظور، ورؤية الذات من خلال رؤية الشرقي اللاعقلاني الحسي غير المتحضر. ذلك كان مشروعه في "الاستشراق" و"المسألة الفلسطينية" و"تغطية الإسلام" و"الثقافة والإمبريالية". وقد وسع إدوارد مشروعه ليشمل قراءة دور المثقفين في العصر الحديث، غرباً وشرقاً، ليعيد إحياء الدور الرسالي للمثقف في الغرب بتأثيرات العولمة ونشوء الشركات المتعددة الجنسية التي بدأت توظف المثقفين والأكاديميين ليقدموا لها خبراتهم بغض النظر عن التأثيرات السلبية التي تنشأ عن المعلومات التي يقدمها هؤلاء الخبراء. من هنا يبدو تأثير إدوارد سعيد مزدوجاً في الثقافة الغربية، وكذلك في الثقافات الأخرى عبر ترجماته إلى لغات عدة في العالم ومن ضمنها التركية والصربية واليابانية والماليزية، وكذلك من خلال تلامذته الكثيرين الذين درسوا على يديه في جامعة كولومبيا أو من خلال قراءتهم لكتبه. ويتمثل هذا الدور المزدوج في قراءته الأركيولوجية المعمقة للثقافة الغربية وتفكيك خطاب هذه الثقافة، وفي نشاطه الخلاق عبر الكتابة والحوارات التي كان يدلي بها للصحف والمجلات والإذاعات ومحطات التلفزيون الكثيرة التي كان يظهر على شاشاتها مدافعاً عن القضية الفلسطينية ومندداً بالإمبريالية الأميركية الصاعدة. إنه يربط إذاً بين عمله الأكاديمي ودوره كمثقف منتمٍ الى الحقيقة راغب في التشديد عليها في وجه السلطة أينما توضعت هذا السلطة وأينما وجدت. كان إدوارد مقيماً بين الثقافات، كما وصف نفسه أكثر من مرة، فهو ضد ما يسميه سياسات الهوية، ومع هجنة الهويات وتلاقح الثقافات وضد صراع البشر القائم على الأصول والأعراق والانتماءات الجغرافية والمناطقية الصغيرة. وقد كان نضاله الأساس في كتابته هو أن ينبه الغرب والشرق، الشمال والجنوب، إلى أن حروب البشر، التي تستند إلى ما يسميه صمويل هنتنغتون "صراع الحضارات"، هي حروب مدمرة للهويات نفسها، مضرة بالبشر جميعاً غالبين ومغلوبين. ومن هنا تمييزه المدهش بين ما يسميه النسب filiation والانتساب affiliation، فالنوع الأول من العلاقة التي تقوم بين الفرد وعائلته ومجتمعه ذو طبيعة قسرية لا اختيار فيها، فيما يكون الانتساب حراً قائماً على الابتكار والرغبة الإنسانية العميقة لخدمة فكرة أو قضية من دون التمترس خلف آراء مسبقة أو تحيزات معينة. ولهذا السبب، ولإيمانه بالاختيار الحر وبدور المثقف الرسالي، عاد إدوارد سعيد، في أيامه الأخيرة، ليكتب عن علاقة المذهب الإنساني بالنقد الديموقراطي في كتاب صدر بعد وفاته تحت العنوان نفسه. في هذا السياق يمكننا فهم إدوارد سعيد، أي في الإطار الإنساني الرحب، الذي لا تحيزات عرقية أو جغرافية أو دينية فيه. لقد كتب إدوارد، المثقف العميق، عن الثقافة الإنسانية انطلاقاً من رؤية شمولية واسعة، وكان عارفاً بالكثير من اللغات، قادراً على الكتابة عن الموسيقى والشعر والرواية والمسرح، بارعاً في الحوار حول السياسة ومصائر البشر المعقدة. ولهذا كان تأثيره في حقول عدة، من ضمنها الأنثروبولوجيا والنظرية الأدبية وتاريخ الفن وخطاب ما بعد الاستعمار، شديد الوضوح، كما أن تلاميذه الذين لا عد لهم، والباحثين الذين يتأثرون بخطاه في المؤسسة الأكاديمية وفي تيارات النقد والنظرية، موزعون على جهات الأرض الأربع. لقد غير الرجل طرائق التفكير بالآخر، وأعاد النظر في علاقة السلطة بالمعرفة، متجاوزاً عمل ملهمه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ليعيد للفاعلية والمشاركة الإنسانيتين دورهما في هذه العلاقة. ما أقصد أن أشدد عليه هو القول إن إدوارد سعيد ليس مجرد فلسطيني ولد في القدس، وكونه ينتسب إلى فلسطين كقضية إنسانية كبيرة تحفر في وجدانه وعمله، لا يختزله، ولا يعيده إلى مسقط رأسه وانتمائه العرقي والطائفي. وكل فهم يختزل إدوارد إلى ذلك البعد يقلل من أهميته في الفكر الإنساني.