بدأت الكاتبة التونسية حفيظة قارة بيبان مسيرتها الأدبية باسم مستعار هو"بنت البحر"، كما بدأت مشروعها الأدبي بكتابة القصة القصيرة، فنشرت في هذا المجال مجموعتين هما"الطفلة انتحرت"ثم"في ظلمة النور"، كما عرجت على الكتابة الشعرية فأصدرت"رسائل لا يحملها البريد"أطلقت عليها عنواناً فرعيّاً هو"نصوص شعرية". وكأن كل ذلك كان تهيئة لعملها الروائي الجديد"دروب الفرار"دار سراس للنشر، تونس، في 223 صفحة من القطع المتوسط وهو عمل لم يخل من الأشكال والأجناس التي مارستها الكاتبة في السابق، إضافة إلى أشكال سردية أخرى متنوعة لجأت إليها المؤلفة في روايتها هذه المتوَّجة بجائزة تونسية. ما يلاحظ أيضاً أن الرواية جاءت تحمل الاسمين معاً هذه المرة"أي الحقيقي والمستعار. وهذا اللقاء ما بين الاسمين ربما لم يكن اعتباطيّاً، وإن جاء بطريقة لا واعية، ما دام موضوع الرواية نفسها هو الهروب من كل ما يقيد و"يحجب". فالكاتبة تنتمي إلى مدينة بحرية شمالي تونس، هي مدينة بنزرت وهي لن تسميها صراحة في روايتها هذه، بل تهرب بها الى اسمها الروماني القديم مختصراً. فمدينة بنزرت الحالية، أو"هيبودياريتوس"الرومانية، ترد في الرواية باسم هيبو. والساردة لا تنتمي الى البحر فقط بل تجعل منه ملجأ رومانسياً؟ حين يشتد عليها الحصار. كما تهرب إليه في خاتمة الرواية. أكثر من ذلك نتابع في هذا العمل الروائي ما يشبه تداخلاً بين الكاتبة وبطلة روايتها"شرود". ولا يأتي ذلك حصراً في امكان قراءة الرواية باعتبارها رواية سيرة ذاتية ولو تأويلاً أو تجنّياً، فحسب، بل لأن الكاتبة تخرج بطلتها من سياق السرد كشخصية متخيَّلة، لتهديها الكتاب أيضاً بهذه الصيغة:"إليك يا شرود/ يا حبة الثلج على الرخام الحزين/ يا نسمة البحر المغسولة بالندى/ لا تسقطي/ إليك، وحدك يا حبيبة أسكنها جموح الخيال دمي/ لا تسقطي! قبل أن ينتهي المشوار". أما افتتاح الرواية فيبدأ بمقطعين للشاعر أنسي الحاج:"مع هذا، ولا مرة شعرت أنني حي مثلما أشعر وسط هذه المجزرة. ولا مرة شعرت بالحرية مثلما أشعر وأنا في قبضة هذا الكابوس". وجاء في المقطع الثاني:"عندما أسأل ذاتي مقلِّداً القديس أغسطينيوس: متى ياربّ كنت بريئاً، لا أستطيع لجم نفسي عن سؤاله كذلك: ومتى يا رب كنت مذنباً؟". رواية"دروب الفرار"هي حكاية امرأة في مقتبل الشباب، تعيش حصاراً متعدد الوجوه، وتسلك تلك"الدروب"بحثاً عن الخلاص. وربما ترتكب خطايا أيضاً، لتتساءل بعد ذلك عن مدى براءتها أو تورطها في الخطيئة، بالطريقة التي ارتأت المؤلفة أن أنسي الحاج يكثفها بإتقان محكم. تبدأ الرواية وبطلتها"شرود"على وشك مغادرة مشفى الأمراض العقلية، معافاة ربما، لكن مع"حبوب"للنسيان. غير أن العكس هو ما يحدث"فها هي ذي في طريقها إلى مدينة هيبو، تتذكّر كل الذي حدث، منذ طفولتها في عائلة يسودها الحب والوئام والموسيقى والشعر والحلم، في حضور أب"معتدل في تديّنه". وهذه الملاحظة الأخيرة مهمة بالنسبة الى سياق الرواية التي تجرى أحداثها في إطار ثمانينات تونس انتفاضة مسلّحة في الجنوبالتونسي، احتجاجات نقابية، اضطرابات في الجامعة، قمع الخ... وخارج تونس تفاقم العدوان على لبنان وفلسطين، ودهاء الاستعمار العائد إلينا مقنّعاً من ألف باب وباب، وجبروت الحكّام العرب واستبدادهم.... ضمن هذه الأحداث يبرز صعود تيار التطرف الديني في تونس وتتعرف شرود إلى خالد فتقول:"لأول مرة أنصت إلى رجل يطلب عقلي قبل جسدي ويتحدث عن الشريكة - الإنسان... أو هكذا بدا لي". لكنها في الواقع تنتقل إلى بيت حديث التزّمت دينيّاً، حيث تسكن مع عائلة زوجها مكرهة. وهناك تلاحظ أو تتساءل:"كانت الرحمة واسعة... فما الذي يحدث الآن؟ وكيف حلت هذه القسوة والعدائية لتحاصرنا كل هذه الظلمات؟". الحصار والتبدل ولا يقتصر الحصار على ما يشهده الشارع، أو على ما تحاول عائلة زوجها فرضه عليها فقط... فالزوج خالد يبدأ بالتبدل أيضاً. فتشهد أحلامها تذوي الواحد إثر الآخر، لتحل محلها أنواع أخرى من الحصار: فالزوج الذي وعدها بآلة عود تخلى عن وعده، بل وصار يشارك أهله في زجرها باعتبار الموسيقى نوعاً من الفجور. وكانت تحلم بإتمام دراستها بعد الزواج فتبيّن لها تعذر ذلك. ويظل متنفسها الوحيد هو شقيقها أمير الذي يكتب مذكراته، كما يقرض الشعر على أمل أن تلحن شرود بعض قصائده في المستقبل. وتمكننا مذكراته من قراءة الاحداث من زاوية نظر أخرى تغني الرواية. كما ينصرف الى العمل السياسي ضمن مجموعات يسارية ليلاحق في ما بعد ويختفي. في الاثناء تحمل شرود وترى أن الجنين جاء قبل أوانه، فتسعى إلى وسائل عدة لإسقاطه، حتى يتم لها التخلص منه. وينشغل الزوج"بالادارة والحسابات ومسؤولية القلعة وقبيلة النساء السبع التقيات المنتظرات دوماً رجل الدار"، بينما تعلق شرود ذات النفس الرومانسي الحالم قائلة:"واذا أنت سحاب راحل بعيداً عني بالمطر إلى جبل المسؤوليات". في الجزء الثاني من الرواية يغتني السرد بأشكال متنوعة وأجناس أدبية متداخلة: من تعدد الرواة شرود، أمير، خالد إلى المذكرات والهوامش والاعترافات، فضلاً عن الاقتباسات من الملف الطبي لشرود سليمان، واستخدام"الكولاج"لمجموعة من"مانشيتات"الصحف الصادرة آنذاك محمّلة بطزاجة الأحداث تونسياً وعربياً، على غرار: من أحداث جانفي 8791 إلى أحداث جانفي 0891، الحصيلة 120 قتيلاً في تونس وعشرات في الجنوب/ المعارك متواصلة في جنوبلبنان /20شهيداً في العباسية/ غالي شكري يعلن"في مصر 21 ألف معتقل و40 ألفاً قيد الإقامة الجبرية الخ... أما شرود التي سماها والدها كذلك حتى تكون"نادرة الوجود"مثل اسمها، فتعايش الاحداث ضمن مواجهة، حيناً، أو نكوص الى الماضي، في الكثير من الأحيان، وذلك على ايقاع الاغاني، الكثير من الاغاني، لمطربين عرب وأجانب عبدالحليم حافظ في المقدمة، ثم عبدالوهاب، ونجاة الصغيرة، والشيخ إمام، وآدمو... الخ فيما زوجها يتمنى العودة من ارهاق الشغل إلى"امرأة مريحة تنسي الهموم"، غير أن شرود تزيد إلى همّه وهمّها، هموماً أخرى، فتتماهى مع شخصية ليلى التي هلكت في بيروت جراء انفجار سيارة مفخخة، وتخوض معارك مع زوجها بعد نقاشات حول الفن والشعر والرقص، فيصرخ بها:"الفنّ ضيّع الاندلس!". وتحافظ شرود على موقفها، فتشتغل في مكتب إحدى الصحف، وتراسل إحدى الجامعات الفرنسية. ولكنها تستكين قليلاً وتنجب"زهر"من دون أن يتوقف الشجار مع زوجها، إلى أن تنتابها حالات هستيرية كمقدمات لجنون يؤدي بها إلى قتل ابنها. لا تحيد الكاتبة عن استخدام اللغة الفصحى في السرد كما في الحوار. ومن الطريف أنها لم تلجأ إلى اللهجة العامية إلا على لسان الطبيب الإيطالي الذي ينصحها أيضاً بأن تكتب، أو ترسم، أو تغني، أو تستمع إلى الموسيقى، إذا كان ذلك يريحها. هكذا يشتد الحصار حول شرود. أما دروب الفرار فهي محاولة الهروب من التفكير، ومن زوجها، ومن المسلخ البلدي بالمعنى السياسي المجازي ومن ظلامية أعداء الحرية والفن والحياة. لكن هروبها يؤدي بها إلى قتل إبنها في حالة هستيرية وجرِّها من شعرها إلى مشفى الأمراض العقلية الذي تخرج منه الآن، إلى هيبو، المدينة البحرية، برفقة زوجها الذي يبشرها باكتمال بناء الشقة الخاصة بهما، لكنها تفضل العودة إلى بيت الطفولة والصبا، ثم تهرب إلى البحر المهجور الذي ظل تحت المطر،"يغني لها وحدها، ولا يكف عن الغناء".