دخلت الدراما والأعمال الفنية والأدبية في السنوات الأخيرة على الخط في العلاقة الحساسة بين المسيحيين والمسلمين في مصر، وقد أثير ذلك عبر العديد من الأعمال الفنية مثل مسلسل "أوان الورد" و"عمرو ابن العاص" وفيلم "بحب السيما" وأخيرا مسلسل "بنت من شبرا" وهو قصة الروائي الراحل فتحي غانم الذي قام وزير الإعلام الحالي ممدوح البلتاجي بمنع عرضه في التلفزيون المصري. المعترضون على منع عرض المسلسل لهم حججهم الوجيهة مثل أن الأصل في الإبداع هو الإباحة وليس المنع، وأن الفن والعمل الإبداعي بوجه عام يحاول مناقشة المسكوت عنه والممنوعات ومن ثم تكسير هذه التابوهات، وأن للفن منطقه الخاص، وأن الشخصية الفنية غير الشخصية الحقيقية، وأن الفن غالبا لا يتناول الشخصيات العادية وإنما النماذج المنحرفة أو النماذج الدرامية التي تصلح أن تجسد دراميا، وأن العمل الدرامي ليس صورة فوتوغرافية أو تقريراً إخبارياً أو فيلماً وثائقياً، وإنما هو رؤية لكاتبه ومخرجه. وكما أن الخبر من حق القارئ والرأي من حق صاحبه، فإن المعالجة الفنية والأدبية كعمل إبداعي تعامَل معاملة الرأي في أنها من حق المبدع. وعلاوة على ذلك فإن الاستجابة لملاحظات المؤسسات الدينية سواء كانت مسيحية أو مسلمة سيحد حتما من حرية الإبداع ويضع سقفا عليها ويجعل الفن أقرب إلى المواعظ المباشرة المملة ويدخلنا في ما يشبه محاكم التفتيش الفنية. أنا أتفق مع كل الكلام السابق وأزيد عليه أكثر في ما يتعلق بالحريات بكل صورها، لكن المسألة ليست بهذه البساطة وما يحدث يخرج عن موضوع الحرية والإباحة إلى مفهوم "الاستباحة" لكل ما هو قبطي في المجتمع المصري من قبل المتعصبين: من تاريخهم إلى أموالهم إلى بناتهم يسير ذلك في خطوط متوازية ومتماهية بين فكر المتطرفين وسلوك الحكومة المشين. إذا تناولنا بالتحليل الأعمال الفنية التي اعترض عليها الأقباط نجد أنها لا تخرج عن عدة أنماط مكررة كجزء من استهداف لكل ما هو قبطي، مثل: أولاً، تشجيع زواج المسيحية من المسلم وفي نفس الوقت التحريم التام لزواج المسيحي من مسلمة، بل ان هناك أعمالاً فنية تم حذف بعض أجزائها لأنها عرضت في ثناياها مجرد إعجاب وحب من شاب مسيحي لفتاة مسلمة. ثانياً، التهليل لدخول غير المسلم في الإسلام في الوقت الذي يجرم مجرد الكلام عن اعتناق المسلم لديانة أخرى. ثالثاً، التمجيد المتواصل للإسلام في مقابل تحقير وإهانة الديانات الأخرى. ويتم ذلك ليس فقط من خلال نقد الأديان الأخرى وإنما تعميم فكرة المؤمن والكافر مع كل ما يحمله لفظ كافر من استعداء المجتمع عليه من خلال نصوص دينيه تدعو الى استئصاله. والغريب أن الهجوم الأساسي مركز على المسيحيين واليهود. ومن المألوف أن تسمع في الحوارات الفنية ألفاظاً مثل صليبي، كافر، فرطوس، يهودي، خنزير وما شابه ذلك من الاسقاطات البذيئة التي تتواجد في بعض الأعمال الفنية. أما إذا تحدثنا عن الصحافة والكتابة فحدث ولا حرج، فنحن نتحدث عن فعل يومي. رابعاً، تنميط المسيحي في قوالب غير سوية مثل الطيب الى درجة السذاجة، أو المتزمت الى درجة التخلف، أو المنحرف وشارب الخمر ومدمن لعب القمار، أو البنت المستهترة المنحرفة، أو الرجل الضعيف أمام زوجته بما في ذلك الضعيف جنسيا فيما يصور المسلم على أنه الفحل الجنسي الذي يأتي لإنقاذ هؤلاء المحرومات جنسيا من أزمتهن. الأقباط ليسوا ملائكة وإذا رأى المبدع تناول شخصية فاسدة أو منحرفة فيجب ألا يكون هناك انحيازات مسبقة أو قوالب نمطية. لقد سكتت الدراما دهراً ونطقت كفرا، فبعد عقود طويلة من غياب الشخصية القبطية في الدراما تأتي هذه الأعمال حاملة معها كل هذه التشوهات ضدهم. خامساً، التزوير الفج للتاريخ وهي سمة تلتصق بكل الأعمال الدرامية التاريخية تقريباً. وهو ما حدث في مسلسل عمرو بن العاص. والغريب أنه لو كتب أحد مسلسلا تاريخيا من واقع التراث الإسلامي الصحيح كما نراه في أمهات الكتب الإسلامية لاختلف الوضع. لكن دائما المعالجة الدرامية للأحداث التاريخية مزيفة ومشوهة في مصر، والجزء المتعلق بالأقباط هو ترحيبهم بالغزو العربي ودخولهم في دين الله أفواجا بفرح ومن دون إجبار، وأن الإسلام أنقذهم من الاضطهاد، وأن الذمية كانت نعمة لهم وقس على ذلك الكثير من هذه الفجاجات. سادساً، ممنوع على المسيحي حق الرد أو تقديم رؤية درامية مضادة تعكس، إن لم يكن الحقيقة، فعلى الأقل المعالجة والرؤية القبطية لهذه المسائل بما يوازن الأمور. ترفض كافة وسائل الإعلام وتنكر على القبطي مجرد حق الرد، وهو حق مكفول قانونيا ودوليا، فما بالك بتقديم رؤية ومعالجة تتناقض مع المعالجة الإسلامية لمختلف الموضوعات. إذا أضفنا استئثار تغطية الأعمال الدرامية والدينية الإسلامية بحوالى 20 في المئة من الخريطة الإعلامية في مصر، في حين يأتي نصيب الأقباط بعدة ساعات في السنة كلها لنقل شعائر أعيادهم الدينية، فكيف يمكن أن يصف شخص محايد وعادل هذا الوضع؟ هل يمكن أن يسمى ذلك إبداعا أم استباحة؟ هل هذه أعمال فنية محايدة أم تحمل رسائل موجهة لتشكيل وجدان وسلوك المجتمع؟ هل هي أعمال بريئة أم أعمال تسعى لقولبة وتنميط الشخصية القبطية؟ هل يمكن أن نقول إن هناك إبداعاً متعصباً وإبداعاً غير متعصب، أم أن هذا ليس إبداعا بالمفهوم الراقي الإنساني للإبداع وإنما معالجة فنية تأتي في إطار رسالة دولة دينية تغرس في نفوس أفرادها الاستعلاء الديني والانقضاض على حقوق الآخرين من شركاء الوطن؟ وهل الإبداع هنا عمل تلقائي أم جزء من أدوات التمييز ضد الأقباط في مصر؟ وكيف يكون إبداعا ذلك الذي يمجد ارتداء المرأة للحجاب ويحقر من المرأة غير المحجبة؟، كيف يكون إبداعا ذلك الذي يساير الخيال الشعبي المريض ويصور بيوت الأقباط على أنها بارات وكنائسهم على أنها ساحات يختلط فيها الحابل بالنابل؟ وكيف يكون إبداعا ذلك الذي يسير في اتجاه واحد وكأنه طابور عسكري؟ كيف يكون ذلك إبداعا ولم تخطر على ذهن أو قلم كاتب واحد حالة عكسية أحبت فيها مسلمة شخصاً مسيحياً أو خرج مسلم عن ديانته واعتنق ديناً آخر؟ إن كل القوانين والمواثيق الدولية تؤكد على حماية الأقليات وثقافاتهم وخصوصياتهم وديانتهم وشعائرهم وعدم المساس بها أو الاعتداء عليها أو تحقيرها أو الاستهزاء بها، فلا ينبغي لأي مجتمع أن يعتدي على الحقوق الأساسية للأقليات فيه. إن حرية التعبير والإبداع غايتها الأساسية الكشف عن الحقيقة، ولكن نحن هنا أمام تزوير للحقائق وهذا هو جوهر الأعلام الموجه. وأنا لا أعتقد أن هناك توجيهات محددة في ما يتعلق بتناول الدراما للأقباط، لكنها انعكاس لمجتمع مريض ومتعصب تتحكم فيه مجموعات نشطة جداً وعلى درجة عالية من عدم التسامح. والسؤال الملح: هل تمول الدولة إعلاماً يعتدي على حقوق الأقليات فيه، ويمارس الدعاية الواسعة ضدهم؟ لقد حُسم هذا الوضع في الغرب نحو تجريم تمويل الدولة لأي عمل من أموال دافعي الضرائب يعتدي على حقوق الأقليات فيه ويحقر من شأنهم ووضعهم وثقافتهم. والحقيقة أن الوحدة الوطنية هي العمود الفقري للأمة المصرية، وأنه حان الوقت لترميمها قبل أن ينهار المنزل على من فيه، ووقتها لن يجدي البكاء على اللبن المسكوب.