قبل اكثر من عقدين كانت افكار أليسار والماركسية لا تزال متداولة في الأوساط الثقافية العربية وفي العالم، وكانت النقاشات تدور خصوصاً منذ الستينات حول ماركسية ماركس الحقة والماركسية اللاحقة المبتذلة. وفي السياق كانت ترد احياناً ملاحظات حول النظرية والواقع، فينسب الى ماركس خطأ التقدير والميل الى التركيز على أوروبا باعتبارها الموضع الأكثر تطوراً من الناحية التاريخية، اي الأكثر كمالاً في المفهوم "التشريحي" ومن ثم الأكثر اهلية لتقبل الثورة الشيوعية والتحول التاريخي من الرأسمالية الى الاشتراكية، وهو ما لم يحصل واقعياً وعملياً بينما جاءت عبقرية لينين لكي تكشف عن إمكان الثورة في الطرف وعلى المشارف الآسيوية الأوروبية وهو ما حصل فعلاً وما تم قبوله وقتذاك على انه الإنجاز التاريخي العبقري لمنظر الماركسية الأعظم بعد ماركس وإنغلز. لم يكن ماركس وإنغلز حيين عندما وضع لينين نظريته عن التطور المتفاوت، واكتشف الوحدة ضمن التناقض النظري والعملي بينه وبين معلميه الكبيرين. ولأنه كان قاد ثورة قائمة على الأرض وهي الثورة الاشتراكية الأولى في التاريخ، فأصبح قادراً على تجاوز ما لا يحصى من العقبات لمجرد تمتعه بفضل الإنجاز العملي، فكاد يملك القدرة على تطويع النظرية وتأسيساتها للمتحقق، الأمر الذي اسبغ على الماركسية ظلالاً بقيت مخيمة عليها طوال القرن العشرين وساهمت في طي الكثير من صفحات "الماركسية الحقة" او "الصحيحة"، الى ان بدأت مثالب التطبيق الاشتراكي اللينيني ومن ثم الستاليني تتفجر منذ الخمسينات، ثم تبلورت مناهج نقدها في الستينات لتتحول الى تيار تجديدي قوي متشعب المصادر والاتجاهات والممثلين. نعود اليوم الى تلك الفترة بفعل دافعين: اولهما الحنين الى تلك الأيام والأجواء المثيرة والتي لم تكن تخلو من الصدق ومناسبات الوفاء للحقيقة، والثاني يتصل بغرابة التاريخ، وتقلبات فصوله، ومقاربات خطى السائرين عليه، وتشابهات احواله حتى وإن اختلفت الأهميات، وتغيرت قيمة الفاعلين في الحالين او في كل الأحوال. هذا على رغم انني لا أعتقد بأن الذي أثار في الأصل هذا الحديث وحفزه بالأمر العابر لا من حيث النتائج والتداعيات على المستوى العالمي، ولا من حيث اتصاله بقوة المتغيرات التاريخية الكبرى. ومع ان الأحداث والتقلبات في المشهد العالمي خلال العقد ونصف العقد الماضي، سلطت الأضواء على جوانب بعينها، وأزاحت من المشهد جوانب اخرى كانت قوية الحضور في خيارات البشر وتصوراتهم للحاضر والمستقبل، إلا ان بعض الحقائق غير المعترف بها، وغير المقرة على نطاق واسع اخذت هي الأخرى موقعها في التاريخ محتفظة بقيمة لا تذكر. وبعض الأحداث التي من هذا النوع - وهي نادرة عادة - يظلمها الإيقاع الانتقالي القوي والسريع، المعاش على مستوى العالم اليوم. ويمكن ان يحجبها كلياً تاركاً اياها لحكم المصادفات والأقدار. فالتاريخ لا يخلو ابداً من الظلم، والأقدار حاضرة وتلعب هنا ايضاً في المصائر بما فيها مصائر الأمم والمشاريع والخيارات، فكيف بالخيارات المطوية والمقتولة مثل ذلك الذي اقترح يوماً للعراق وخصوصاً بين 1990 و2003 ما بين الحربين والغزوين، عندما أطلقت فكرة التحول الوطني السلمي نحو الديموقراطية ومبدأ "التغيير" الداخلي بعيداً من الاستعانة بالخارج و"التغيير من دون حرب". وكلها مفاهيم وقف خلفها تيار من الأفكار والمبادرات والآراء حاولت ان تسبح ضد التيار وتحملت على مدى اثنتي عشرة سنة كل انواع التشويهات ومحاولات العزل والمماطلات والاتهامات والشكوك. وحين يصادف في المستقبل وجود مؤرخين يهمهم تقصي تاريخ افكار "الثورة السلبية" - وهذا تعبير نقترحه توصيفاً لتيار من الأفكار والتصورات لا نعتقد انها عابرة وسنحاول هنا تسليط الضوء على بعض ملامحها وبداياتها فإن هؤلاء لا بد سيعودون الى حفريات قديمة ترجع الى ايام "التحريفات" التي ظهرت في ظل وجود المعسكر الاشتراكي، وهذه كثيرة ومتشعبة لن نجازف بالخوض في تفاصيلها مكتفين بذكر آخرها وأكثرها دلالة وخطراً. ونقصد مشروع غورباتشوف المظلوم بسبب تبلوره المتأخر وفي غير وقته، اضافة الى افتقاره الى الضمانات الضرورية لإجراء تغيير متوازن في ظروف مجابهة عالمية حادة ومصيرية. غير ان الأفكار والمشاريع الصاعدة والتي تبلورها الضرورة التاريخية، تسير في دروب التاريخ متعثرة مثل الوليد، تتلقى السقطات، لا بل وكثيراً ما تغرق في الدماء، وتترك وراءها ذكريات مؤلمة وموحية تدل الآتين بعدها على الطريق. وهذا المصير ينطبق على "ثورات السلب" كما على ثورات الإيجاب. وكما كان مصير كومونة باريس، شهدنا على مشارف القرن الحادي والعشرين، كارثة سقوط الاشتراكية، ومعها النظرية التي كانت السبب المباشر في انهيارها المدوي، بينما مشروع التغيير وإعادة البناء يكتسب بعداً عملياً ويدخل قلب الدولة الاشتراكية الأكبر. ولكن على عكس ما جاء به البيان الشيوعي وأفكار ماركس وإنغلز، أنكرت تماماً كل الموضوعات التي ظهرت في اوروبا وأوروبا الشرقية وغيرها من اتجاهات نقد الستالينية، ومسحت تماماً من التداول بين "الثوريين" نظرية البيريسترويكا وبدا وكأن مجال الوراثة او الاتصال الفكري او احتمالات تجديد الثورة ومفاهيمها انقطع كلياً. ولعل من اهم اسباب هذا الانقطاع او القحط الفكري، تداخل ضرورات الثورة الراهنة مع عوامل الانتقال السلبي في مفهوم السلطة وإدارة المجتمع، فالمجتمعات الإنسانية تراوح خياراتها على مر التاريخ بين قانون الغلبة وقانون التوافق، والسائد عموماً وبداهة في التاريخ الإنساني هو قانون السيطرة مع ملحقاتها، وأشكال تحقيقها. وكل اقتراب من "الديموقراطية" يعني تجاوز منطق الغلبة وذهاباً نحو منظومة "السلب" الغريب وغير المفهوم إزاء بداهة او قدم ممارسة حيازة السلطة. ومن الأمثلة المثيرة في هذا الخصوص تزامن انهيار معسكر اشتراكية الدولة عند بداية التسعينات مع ظهور نظرية "نهاية التاريخ" المفعمة بالرضوخ لمنطق السيطرة، ففوكوياما لم يكن يستطيع وعي اشكال الصراع ضمن المجتمع التوافقي والديموقراطي، واعتبر بفعل غرقه في الماضي ان تبدل اشكال الصراع وإن كان جوهرياً يعني انتهاء الصراع كلياً. والماركسية بالذات هي احدى نظريات الغلبة ومن اكثرها تركيزاً على "الصراع"، وجوهرها "الاشتراكي" المساواتي مرهون بالانتصار التاريخي والديكتاتورية. ولهذا كانت تستجلب تأييداً واسعاً، فتحقيق المساواة والعدالة شبه المطلقة بحسب نظرية ماركس وإنغلز معروضة وفق جدول عمل يتفق ومنطق الأشياء السائدة في التاريخ. وذلك كان بلا ادنى شك من اكبر تناقضات هذه النظرية. فالوصول الى اللادولة وانتفاء الصراع وتبدل الحياة والتاريخ جوهرياً، موضوعة بحسب المادية التاريخية ضمن شروط الصراع والغلبة والقهر على افتراض ان التراكمات الكمية يمكن ان تؤدي الى الانقلابات الكيفية. وهو ما لم يرشحه التاريخ للحياة، مما جعل التجربة المعاشة محكومة بتعديلات شاملة طرأت بناء للتجربة على مناهج وتصورات التغيير التاريخي، حتى كاد ينقطع التسلسل الوراثي لنظرية التغيير وانتهت إجمالاً وكلياً تقريباً صلة النسب بين الممكنات الراهنة للتغيير العالمي وبين نظرية الماركسية. في وقت سابق كتبنا السفير اللبنانية - 7 تشرين الأول/ اكتوبر 2000 مقالاً تحت عنوان "الديموقراطية المقاتلة وطبائع الشعوب" ركزنا فيه على تجارب البلدان غير الرأسمالية ممن عرفت نماذج من انظمة الحزب الواحد واشتراكية الدولة وقلنا بأنها مرشحة لأن تشهد قيام "ديموقراطيات وطنية تحررية ومقاتلة ضد الاستباحة تصبح اقرب الى ان تتحول الى تيار صاعد ومرشح لأن يقلب واقعياً مفهوم الديموقراطية المتداولة اليوم، ويعد بتحقيق نماذج منها تعيد التوازن للمشهد الراهن المختل، والمائل كلياً لمصلحة ديموقراطية الاستباحة والاستبداد". ولن نستعير نصوصاً اخرى من تلك المحاولة المبكرة والأولية مع ان من الضروري الإشارة الى ما احتوته من إشارات اساسية خاصة بقضيتي التحول الديموقراطي في البلدان التي خاضت تجارب التحرر الوطني والتنمية المستقلة ومحاولات بناء "الاشتراكية" وامتناع تجارب هذه البلدان على "الاستباحة وخرق تقاليد او مبادئ السيادة الوطنية وتفكيك وحدة الدول بواقع تحويل السلطات الى جزر مرتبطة بما يشبه سلطة الإدارة العالمية للكوكب الذي ستتزايد فيه اعداد المهمشين والمفقرين والزائدين عن الحاجة وحتى المقتولين عمداً ومع سبق الإصرار". ما هي هذه البلدان يا ترى؟ هل الصين مكان يستوجب ان يركز الانتباه عليه ربما بسبب استعداده الذاتي للتحول اقتصادياً وسياسياً ولو ببطء، من جهة، ومكانته الاقتصادية المتوقعة كعملاق ناهض؟ قد يكون من طبيعة التاريخ المعاصر وبحسب تاريخ الاستقطابات والصراعات العلامية وجود دول "محورية"، ولكن الصين الراهنة لا تنهض ومعها نظرية تكرس نموذجيتها وتجعل اماكن اخرى تتحفز قبل ان ينشأ تيار عالمي جديد ينجب "معسكراً" أو "أممية" امم الديموقراطيات المقاتلة. لقد انقضى عهد ماوتسي تونغ والثورة الثقافية، ولا نعرف ما هي على وجه التحديد امكانات بروز "ثورة" نظرية صينية جديدة وإذا ما كانت ممكنة اصلاً ام لا. غير ان ملامح من التحولات والامتناع، موجودة اليوم على مدى عالمي واسع، وحتى في بلداننا هنالك احتمالات تذكي بروز افكار ومشاريع تنتمي الى عالم "الديموقراطية المقاتلة" و"الثورات السلبية" ولا ينبغي ان نخطئ ونتصور ان الانتكاسات الحالية في الأفكار تمثل حقيقة دائمة او قابلة للبقاء لزمن بعيد. الفراغ وتراكم الانتكاسات المرافقة لتجربة التحول وفق المنظور التنموي الشمولي هما اللذان يغذيان منذ بضعة عقود انبعاث شموليات مستخلصة من الموروث الديني والقومي المتعصب. والمتابعة المدققة في تاريخ هذه الموجة لا تخطئ في تأكيد القاعدة المعروفة عن كره التاريخ للفراغ. فلقد وجدت اشكال الأصوليات في الزمن الضائع منذ بدايات انهيار تجارب "اشتراكية الدولة" وأنظمة التحرر الوطني والتنميات الشمولية، وهي ستتراجع حكماً او تتجدد بعمق كلي، مع صعود او تبلور مفاهيم ومشروع "الديموقراطيات المقاتلة" خصوصاً عندما يتحول هذا المفهوم الى رؤية تتمتع بإثباتات وممارسات مشهود عليها. من الواضح اننا نتحدث عن بوادر ثورة جديدة لا نعتبر ان اوروبا تحتل فيها موقعاً مركزياً، فالصراع الآن يتركز فيصورة خاصة بين معظم البلدان العالمثالثية ومشروع الامبراطورية الأميركية. وهكذا يتكرر من جديد ابتعاد قوة الفعل الدافع على مستوى العالم عن القارة الأوروبية القديمة التي انجزت في وقت سابق وحتى نهاية القرن التاسع عشر دفعتها التجديدية الأولى على المستوى الكوني. ومع هذه الظاهرة يعود ماركس وانغلز لينزويا من جديد مبتعدين عن مجال اهتمام الباحثين عن مصادر حيوية للتفكير الراهن، وبالأخص كلما اراد مفكرو اللحظة الراهنة العثور على مقومات نظرية الثورة الآن. هنالك اليوم مارد يتململ متحفزاً في آسيا وفي الشرق عموماً، بعضهم يراه في نهوض عمالقة اقتصاديين ولا يرى وجهه الآخر التنظيمي والاجتماعي ولا حتى طابعه الشامل والعالمي المعاكس والمضاد كلياً لامبراطورية العولمة وحروب الاستباحة: ان "الديموقراطية المقاتلة" تعني مفهوماً شاملاً وعالمياً للتحول سيستدعي جهوداً كبرى، نظرية وسياسية وثقافية وعلى كل صعيد، وسيستوعب اهتمامات او احلام ملايين البشر. فثمة ثورة من ثورات العصر الكبرى تنمو في احشاء الأيام المقبلة وما علمنا اياه آخر عقد من القرن العشرين مع إعلانه نهايات عصر، سينطوي بعد هذا العقد من القرن الراهن على درس آخر. والأرجح لا بل الأكيد ان سير العالم على قائمة واحدة لن يطول، فالتاريخ المعاصر لا يقبل العرج، والكوكب سينهض معتدلاً ليسير متوازناً مع ازدهار احلام وممكنات انتصار البشر الطامحين الى العدالة والحرية. * كاتب عراقي.