بدقة البحاثة والعلامة يؤرخ لوسيان. إكس بولاسترون في كتابه "كتب تحترق - تاريخ التدمير اللانهائي للمكتبات" دار دو نويل، باريس 2004 لكل مكتبات العالم التي أحرقت أو احترقت أو دمّرت ابتداء بمكتبة الاسكندرية التي أحرقها قيصر وانتهاء بما يحرق ويتلف حتى اليوم من كتب في مختلف أنحاء العالم. ولا يغفل الكاتب مكتبة، كبيرة كانت أم صغيرة، ألا ويؤرخ لها: من أسسها، عدد الكتب والمخطوطات فيها، نوعها، موضوعاتها، أهميتها، سبب اختفائها، إلخ. ومع تعداده العوامل المختلفة التي سببت وتسبب هذه الجريمة يؤكد أن السبب الخفي وراء كل الأسباب الأخرى هو أن الكتاب صنو الإنسان، فحرق الكتاب يعني قتل الإنسان. وطبيعي أن يبدأ بأقدم الكتب والمكتبات، تلك التي كتبت بالخط المسماري على ألواح الخزف 2500 ق.م. في بلاد ما بين النهرين، وكانت أكبر مكتبة تلك التي جمعها أسور بانيبعل سنة 669 ق.م. في نينوى ويقدر العلماء أنها بلغت نصف مليون لوح لا يزال جزء كبير منها مدفوناً في العراق وعرضة لغارات الأميركيين الآن. وبعد ذلك بثلاثة قرون جمع ملوك الفرس في برسيبوليس مكتبة ضخمة لكنها لم تكتب على ألواح الخزف، فاحترقت حين أحرق الاسكندر الأكبر القصر، ويقال إن المخطوطتين الوحيدتين للكاهن زرادشت كانتا بين المخطوطات التي احترقت. بعد ذلك يخص الكاتب فصلاً لكل ما كتب على ورق البردى أيام الفراعنة، وأقدم ما وصلنا منها عائد إلى 2400 ق.م. بالخط الهيروغليفي، ولكن لم يصلنا من مخطوطات الفراعنة ألا النزر القليل. إلا أن أشهر المكتبات القديمة وأكبرها على الإطلاق كانت مكتبة الاسكندرية التي بناها بطليموس الثاني، وكانت أيضاً مركز أبحاث ومحاضرات ومناقشات ونسخ وترجمة ونقد، إذ جمعت أهم علماء اليونان في عصره. هذه أحرقها قيصر عام 48 ق. م. وبعد أن أعيد جمع مكتبة ثانية في الاسكندرية وذاع صيتها، أمر الفاتحون العرب بإحراقها سنة 642م. وأمر ديوكليانس في 303 بحرق كل كتب المسيحيين وكنائسهم، ثم أمر القديس بولس بحرق كل كتب الفلسفة اليونانية. فحين أصبحت المسيحية الدين الرسمي في الامبراطورية الرومانية أحرق المسيحيون ما كان تجمع في الاسكندرية من كتب الفلسفة والعلم "الوثنية". ومكتبات أثينا ومدارسها الفلسفية أغلقها يوستنيانس 529م لأنها لا توافق تعاليم المسيحية. وكان بروكلس، آخر مديري اكاديمية أفلاطون في أثينا، وضع 18 حجة تبيّن خطأ ما تقوله المسيحية عن خلق العالم. أما مكتبات روما فاحترقت إذ كثرت في المدينة الحرائق والثورات والحروب الأهلية، ولكن كلاوديوس، مساعد قيصر، أحرق الوثائق التي تدين الحاكم، وأحرق نيرون ثلاثين ألف مخطوطة فريدة، وليبرئ نفسه من مسؤولية الحريق، لام عليه المسيحيين القلائل وقتلهم. أما البركان الذي التهم بومباي وما فيها، فإن آخر اختراعات "النازا" سمحت بقراءة أوراق البردى المحترقة، وبدأت تكتشف تدريجاً ما احتوت عليه مكتبات الأغنياء في تلك المدينة من كتب معظمها في الفلسفة. ومكتبة القسطنطينية التي كانت تضم 120 ألف مخطوطة نادرة احترقت نتيجة الاضطرابات، إلا أن أكبر ضرر أصابها كان على يد الصليبيين الفرنسيين الأمّيين المتوحشين عام 1204 الذين أحرقوا المخطوطات فيها. وحين أعيد تجميع الكتب أحرقها الأتراك ثانية حين فتحوا القسطنطينية عام 1453. ويخص الكاتب الإسلام بالفصل الرابع من كتابه، فنرى أن مكتبة الاسكندرية لم تكن آخر مكتبة أحرقت، إذ تبعها حرق مكتبة كسرى الفارسية ومكتبة شهريار ومكتبة القيصرية قرب القدس عام 640م التي كان فيها ثلاثون ألف مخطوطة في الفلسفة والعلوم والدين. لكن الكاتب يتوقف طويلاً عند عهد الحضارة العربية الذهبي، مبيناً أن عدد الكتب الموضوعة والمترجمة بلغ 000 896 كتاب. وفي صفحات طويلة يصف المؤلف الجهود الجبارة التي بذلها بعض الأمراء والحكام والمثقفين في جمع الكتب من أقاصي البلاد، وعناية الناسخين البالغة في نسخ المخطوطات في العصر العباسي والأندلس، ثم بعد ذلك في عصر النهضة في اوروبا. وكأنه أراد بذلك أن يؤكد بعد المأساة التي قضت على ذلك كله حين أحرقت المخطوطات والكتب التي بذل في سبيلها كل ما بذل. ويعتبر أكثر تلك الحرائق مأساة تلك التي التهمت مكتبة قرطبة في الأندلس التي كان عبدالرحمن الثالث جمع فيها مجموعة ضخمة من الكتب النادرة في مختلف العلوم والآداب والأديان، مدونة على ورق، ويقول الكاتب ربما كانت قرطبة أول من صنع الورق في اوروبا، فأصبحت قرطبة مركز الثقافة الأندلسية. إلى أن أحرق المنصور والفقهاء، ومن بعدهم البربر، كل ما حوت مكتبة الخلفاء. ويبين المؤلف أن الحضارة الإسلامية العربية كانت بلغت أوج ازدهارها الفكري في العصور العباسية، ويكفينا برهاناً ما أورد ابن النديم في فهرسته من أسماء كتب. في عهد المأمون تضافرت جهود علماء ومترجمين مسيحيين ومسلمين ويهود وزردشتيين وصابئة لترجمة العلوم والفلسفة ووضعها. ولكن رد الفعل جاء على أيدي السلاجقة الذين دمروا المكتبات والمتوكل الذي منع التفكير الحر. ثم حين أسس المعز الخلافة الفاطمية الشيعية كان همه الأول تجميع الكتب وتأسيس المكتبات التي فتحها الحاكم بعد ذلك للجمهور. لكن الفقر تسبّب في بيعها، وحين جاء صلاح الدين باع ما تبقى من كتب الفاطميين الشيعة، ثم قضى المغول نهائياً على كل مكتبات الاسماعيليين في علموت، ومكتبات فارس والعراق وسورية. كان في بغداد وحدها 36 مكتبة سنة 1258، وتلا غزو المغول هجوم جيوش تيمورلنك في 1401 التي قضت على البشر والكتب في العراق وسورية. ويخص الكاتب مكتبات اليهود بفصل قصير مبيناً أنها كانت كثيرة في بغداد والقاهرة وقرطبة، أي في البلاد الإسلامية، على نقيضها في شمال أوروبا حيث أمر البابا غريغوار التاسع بحرقها، وتلاه بابوات وحكام آخرون حتى 1567، فأحرقت مئات الألوف من كتب اليهود. ولم يكن مصير المكتبات في آسيا قبل القرن العشرين أفضل. ففي اليابان قضت على مكتبات البوذيين حرب "أودا" ضدهم، وفي الهند أحرق المكتبات الغزو الإسلامي ثم التركي- الأفغاني، ونهب الإيرانيون مكتبة دلهي عام 1739. ولعل أكثر ما يلفت القارئ ما حصل في الصين. ففي سنة200ق.م. أمر الامبراطور "كن" بحرق الكتب كلها إيماناً منه بأنه لا يمكن حكم الشعب إلا إذا كان جاهلاً ص113. ولو أن مكتبات كثيرة تأسست بعد موته إلا أن حروب الحكام الذين تعاقبوا على العرش تسببت في حرق الكتب. حتى بعد اختراع الصين الطباعة في القرن العاشر للميلاد وانتشار الكتب بفضلها، ضاع معظم الكتب نتيجة السرقة أو فقر أصحابها أو الحروب. وحين ينتقل الكاتب إلى الغرب المسيحي يهاجم أكثر ما يهاجم محاكم التفتيش واللائحة السوداء التي وضعتها بالكتب التي يجب حرقها أي كل ما ترجم من اليونانية والعبرية والعربية والكلدانية واللاتينية ولا يزال الفاتيكان يطبقها إلى اليوم، وإن باسم آخر. وحين غزا الاسبان العالم الجديد أحرقوا مخطوطات الاستيك والمايا وكتب غواتيمالا وهندورس ونيكاراغوا. وحين رفض البابا منح هنري الثامن الانكليزي إذن الطلاق شفى غليله بحرق مكتبة أكسفورد بكاملها، كما أحرقت الثورة الفرنسية الكتب التي كانت في القصور والأديرة، أو نهبت او بيعت أو مزقت. ويقدر انه ضاع أو أحرق أو تمزق في فرنسا ما بين عشرة ملايين واثني عشر مليون كتاب ما بين 1789 و 1803. وفي القرنين التاسع عشر والعشرين كانت الحرب، لا سيما الحربين العالميتين، السبب الأساس للقضاء على الكتب والمخطوطات القيمة النادرة. ففي الحرب العالمية الثانية خسرت فرنسا وحدها 21 مكتبة، في بعضها مخطوطات لم تطبع ولا تعوّض. وكان لا بد من أن يخص المؤلف النازية بفصل يبين ما أمر هتلر بإتلافه في ألمانيا والبلاد التي احتلها من كتب اعتبرتها النازية خاطئة ومضرة بالتاريخ والعرق الألمانيين، فخسرت بولونيا، مثلاً، 80 في المئة من كتبها. وسار ستالين على خطى النازية في إتلاف كتب التتر والليتوانيين والاستونيين، مثلاً، ملايين الكتب حوّلت إلى ورق لإعادة استخدامه أو للتدفئة أو لغير ذلك. كما سرق الروس في آخر الحرب العالمية الثانية الكثير من مكتبات فرنساوألمانيا. وفي الصين قضت على مئات الآلاف من الكتب والمخطوطات النادرة الغارات الجوية اليابانية وما رافقها من حرائق ونهب ومصادرة. وأثناء حكم ماوتسي تونغ قضى على ما في التيبيت من مكتبات سنة 1959 وأتبعها ب"ثورته الثقافية" التي قضت على معظم الكتب في الصين إذ اعتبرها "رجعية"، وللسبب نفسه أتلفت الكتب في الكمبودج أيام بول بوت، وفي كشمير أحرقت الجماعة الإسلامية الكتب التي لا تروقها. كذلك أحرق الطالبان المخطوطات الفريدة والكتب في أفغانستان. وفي حرب البلقان أحرق الصرب المكتبة النادرة في سارييفو التي حوت مخطوطات وكتباً لاتينية وانكليزية وروسية وعربية وألمانية وإيطالية وتركية وإسبانية وعبرية وفارسية. ولا يوفر المؤلف المستعمرين الانكليز والفرنسيين الذين نهبوا المخطوطات الثمينة من البلاد التي استعمروها في افريقيا وآسيا، وأقربها إلى يومنا هذا ما نهب في العراق: آلاف الألواح السومرية وغيرها، وأحرقت المكتبة الوطنية، مثلاً، وفيها ما يزيد على مليوني كتاب وعشرين مليون وثيقة أرشيف. وقيل إن جزءاً منها أحرق عمداً لأن فيها وثائق تدين البيت الأبيض. ويبين المؤلف أن قوانين المراقبة الجديدة في الولاياتالمتحدة، مثلاً، تعيد إلى الذاكرة محاكم التفتيش والنازية والستالينية. إلا أن عوامل الطبيعة لعبت أيضاً دوراً، إذ قضت على المكتبات الزلازل والفيضانات، مثلاً. أما الآن فالمسؤولون عن المكتبات يتلفون بأنفسهم كتباً لم تقرأ من سنوات لأن الرفوف تضيق بما ينبغي أن يزاد عليها من مؤلفات جديدة. وفي الفصل الحادي عشر يعرض لنقل الكتب حالياً على الانترنت وما في ذلك من حسنات وسيئات، متنبئاً بأن المستقبل سيقضي على طبع الكتب ليحل محلها ما يمكن قراءته على الانترنت. وينهي كتابه بالعودة إلى مكتبة الاسكندرية، الجديدة هذه المرة، مبيناً ما فيها من نقص وما يمكن أن يبنى عليها من آمال. هذا العرض الدقيق لتاريخ حرق المكتبات يبعد عنه جفاف التاريخ الأخبار الطريفة التي يوردها المؤلف بأسلوب أدبي شيق. فنعرف، مثلاً، أن محاكم التفتيش في اسبانيا لم تكتفِ بتنصير المسلمين واليهود بل منعت اللغة والأسماء وحتى الملابس العربية، كما منعتهم من الاستحمام ص145. أو أن زوجة محمود الدولة بن فاتك أغرقت كل كتب زوجها الثمينة بعد موته انتقاماً من هذه الكتب التي حرمتها حبه ص90. أو أن ملك اليهود هيرودس أحرق كل الكتب التي بينت أن أصله عربي ص104. أو أن بول بوت شن حرباً على الورق في الكمبودج فلم يسمح بأوراق نقدية ولا هويات، ومن وجدت معه صورة فوتوغرافية كان يقتل ص257. والأخبار الغريبة الممتعة كهذه كثيرة جداً في الكتاب. ونتيجة حرق الكتب أو منعها أو مراقبتها قديماً وحديثاً يخلص المؤلف إلى تعليق مؤلم: "في الجو ما يشبه منظمة عالمية، بحيث يسرّ كل واحد أن يضيف كل صباح إسهامه البسيط ليأتي عمله أقل ما يمكن عمقاً وبراعة ومعرفة." ص280. وكأنه بذلك لا ينعى الكتب والمكتبات وحدها، وإنما الحضارة المعاصرة بكاملها.