يتابع هاني الهندي وعبدالإله النصراوي تحرير وثائق حركة القوميين العرب في كتابهما "حركة القوميين العرب نشأتها وتطورها عبر وثائقها، 1951 - 1968"، الكتاب الأول مؤسسة الأبحاث العربية، 2004، فيعيدان بعث تاريخها على امتداد سنيّ تطورات عربية ساخنة، حملت في طياتها وعد نهضة عربية جديدة، مثلما حملت انكسار الوعد وتبدد الآمال. بين قصر عمر "الحلم" وسرعة تلاشيه، ثمة واقع عربي، كانت معاندته الثقافية والاجتماعية والسياسية هي الغالبة... وما زالت أحكام تغلبه، سائدة حتى الآن. استمرار الواقع العربي المكشوف، يجعل نبش خزائن حركاته السياسية أمراً مفيداً، بل مطلوباً. ليس في الأمر ارتداد الى ماضي الحنين، بل محاولة للخروج من "العودة" بخلاصات تعين على الفهم، في الراهن، إذ لا يمكن القطع مع "الماضي" بخاصة، من جانب المهتمين بقراءة "الظاهرة" في سياقها الأشمل، وبخاصة ان القطع "مستحيل" إذا لم يتم على حاملة التجاوز التاريخي. من باب المادة التنظيمية، يعيد "القوميون العرب" استحضار شحنات مادتهم الفكرية، ومن أجل "الفكر"، المرتبط بعلاقات متينة مع واقع الممارسة، يبلور "القوميون" أطرهم التنظيمية. فهذه "القوالب" ضرورية "لتجنيد جماهير الشعب لخوض النضال بما يتلاءم مع طبيعة المعركة ونوعية الخصم فيها...". في خضم "التنظيم" ثمة ضرورات لا مفر منها، لأن المعركة الضارية سياسياً، تتطلب، رفع مستوى الأداء التنظيمي لدى الفرد "الحركي" ولدى المستويات القيادية والقاعدية على حد سواء. مدخل الارتقاء باستعداد الحركة نضالياً وتنظيمياً، تخصيب الوعي وتنميته، من خلال الحض على القراءة النقدية، والتشديد على أهمية المطالعة، وتجنب "القراءة السريعة" التي تؤمن "للفرد" تجميع المعلومات، لكنها لا تساهم في مراكمة حسّه النقدي. في هذا الجانب، يربط "القوميون العرب" بين "الفهم وإمكان النجاح" ويرفعون توافر "الثقافة العقائدية" الى مستوى الضمانة النضالية، ولأنهم يتمسكون ب"العلمية" صفة "لحركتهم" فإنهم يؤكدون دور المطالعة والتثقيف في "خلق الروح العلمية" الضرورية للفوز في ميدان النضال. تثقيف الفرد، ورفع حسه النقدي، ليسا عملين معزولين عن السياق العام للبناء "القومي"، فالمطلوب في هذا المجال بناء "قلة مخلصة منتجة"، تكون مؤمنة وحازمة وشجاعة في قيادتها "المشروع القومي العربي". عليه، تعيد "صفات الشاب القومي" موضوعاً للنقاش، ونموذجه المرتجى "كإنسان رسالة" تجسيداً لما يجب ان يكون عليه "الانسان الجديد". لعل من الحقيقي القول ان "القوميين العرب" حاولوا بناء "مجتمعهم الخاص" ليكون القدوة والمثال، لما يجب ان يكون عليه "مجتمع الوحدة العربية"! الإشارة الى "الصفات القومية" والإلحاح عليها، مؤشران جديان على "الخلاصة" الآنفة، ودليلان على دور "الأخلاق" التي أعطيت منزلة رفيعة لدى "الحركة". بل لقد جرى الربط المحكم بين التصدي للمشكلات بنجاح، وبين "الصفات الروحية والأخلاقية للقيادة" فرذا غابت هذه، عجز كل "تخطيط عن تقديم الحلول" ضمن هذه المنظومة "النضالية الاخلاقية" العالية الاستعداد، والدائمة التحفز، يصير كل فرد "أمة"، تحل فيه ويحل فيها، يشعر "بمسؤوليته تجاهها، ويرهن حياته ووجوده بها، ويقدم التضحية لها من دون شروط". في ظل هذه التعبئة النضالية العالية، ترفض "حركة القوميين العرب" التنوع والتعدد في التجربة العربية الحزبية، مع انها تقبله على صعيد مجرد، كمصدر للغنى والتفاعل. لماذا؟ لأن "التنوع" عبّر عن "ضحالة في التجربة العربية" ولم يكن وليد "تجربة التنافس الفكري الخلاق". يتكرر الربط دائماً لدى "القوميين العرب" بين الواقع والفكرة: في مضمار الدعوة الى فهم الواقع من خلال معاينته ومعايشته، وفي مجال دعوة الأعضاء الى معايشة "الشعب" والانتباه الى آماله وآلامه، وفي معرض الإلحاح على الربط بين "الفكرة والقدرة على ممارستها"، اي الربط بين "الفكر والعمل" حتى لا تتحول "الحركة الى مجرد مدرسة فكرية"، وحتى لا تنوب "الشعارات الجذرية" عن "القوى المؤهلة" والجائزة لحملها، وكي لا يسود اعتقاد بأن "الفكرة كفيلة وحدها بتحقيق الاهداف"... سنجد بعد نصف قرن تقريباً، من يستمر في اعتناق "الشعارية" ومن يعتقد ب"قوة الفكرة" كوسيلة فضلى لكسر معاندة الوقائع، مثلما سنجد، من "يتعصب للفكرة وللحزب" بصفتهما الغاية والهدف، بعد ان كانا الوسيلة للخروج من أزمة سياسية أو اجتماعية، او رداً على إشكالية "وطنية أو عربية" عامة. لقد ألحّ "القوميون العرب" في هذا المضمار على نبذ "التعصب الحزبي" ورفضوا مقولة الدمج بين "مصلحة الحزب ومصلحة الأمة" وساجلوا ضد "احتكار الحقيقة من جانب حزب واحد"... كانت اهدافهم أكبر، مداها أرحب، لذلك، رفضوا التقوقع على صعيد مبدئي تأسيسي، مع ان السؤال ظل مقلقاً حول قدرتهم على ممارسة ما اقترحوه على أنفسهم وعلى غيرهم؟! لم تكن الحصائل في مصلحتهم دائماً، بل لعل "الرحابة" الفكرية المنتمية الى الميدان العربي الشاسع، كانت تتناقض مع النفس الاختزالي التعبوي، الذي أناط ب"الحركة" ما يشبه الرسالة القومية، وكانت تتعارض ايضاً مع "التوتر والنبذ والتوصيف" التي مارسها "الحركة" في حق من رأى غير رأيها في موضوعات القومية العربية، وعناوينها الكبرى. خلف "التنظيم" وبعيداً من محاكمة منطلقاته، بمقاييس راهنة، ظل الحيوي النابض، كل ما أقلق "مفكري الحركة" وما أثار اسئلتهم الإشكالية، اي بقيت العناوين، التي لم تعرف طريقها الى الإجابات العملية الناجعة بعد. بل إن هذه العناوين، ارتدت معالجاتها الى ما دون "اللمعات" التي تناولتها حركة القوميين العرب، وتدهورت في شكل مخيف، في سلّم أولويات "عرب اليوم"، وهي، أي العناوين، شهدت تبدلات، لمصلحة عناوين أخرى صنفت، منذ نصف قرن، في عداد الموضوعات المانعة من التقدم، على دروب النهضة العربية. يسجل "للقوميين" حيويتهم، وإن كانت الغلّة شحيحة، ولهم، مع سواهم من القوميين، فضل ظاهر في ادارة السجال، الذي ما زال مطروحاً، في ركاب سياق سياسي عربي أشد تعقيداً أو أكثر تدهوراً، لا نجد مفراً، من ضرورة الوقوف امام التجربة الحزبية العربية، لقول رأي في منطلقاتها الفكرية، وفي ممارساتها العملية، وفي أسباب نجاحها المحدود، وفي عوامل سقوطها المريع... ذلك ان ما يواكبنا حتى اليوم، "نتف" حزبيات، تتحرك "بيولوجياً"، يدل على وجودها، "نطقها الفيزيائي" وحركتها الجسمانية، وما سوى ذلك موات فكري مقيم. لقد أصاب "القوميون العرب" عندما أشاروا الى "التخلف العقلي العربي" الذي لم ينتج حتى الآن" ما يتجاوز قديمه... "حتى الآن" هذه ما زالت مستمرة، واليها نضيف ان "العقل العربي" قد نكص دون "قديمه المضيء" وعاد الى "عتمة المنقول" التي لا تفيد سوى في تكثيف "سواد التخلف الاجتماعي" الذي يرسف فيه الوضع العربي عموماً. "مساهمة أخرى" تسجل "للقوميين العرب" هي مسارعتهم الى فتح النقاش حول التحديدات، وحول مضمون المفاهيم، حتى لا يظل "الفهم" شاحباً. والفكرة غائمة. لقد طرح "القوميون" على سبيل المثال تحدي: "فهم الواقع العربي ومشكلاته" من منطلق عياني، وليس من وضعية تأملية... حقاً: كيف نفهم الواقع العربي اليوم؟ وكم تقاوم فهمنا لهذا الواقع، الذي أعملنا فيه نظارات مقاربات مختلفة؟! سعى "القوميون العرب" الى تحديد الاسئلة "المفتاحية" حول الاشكاليات العامة، وحاولوا تحديد الاشكالية الأساس في "زمنهم النضالي". ما مفاتيح القراءة العربية اليوم؟ وكيف تصنف الاشكاليات؟ في ترتيب مدروس، طرح "القوميون العرب" على سبيل التركيز، مسائل من نوع: البترول والقومية والحرية والديموقراطية والاشتراكية والأقليات... وقد غلبت على "بدايات الإجابة" لديهم، الأولوية السياسية، مما علّق، أو أعاق استكمال "الصياغة النظرية" حول كل هذه المعضلات او بعضها... لكن بمقياس اليوم، ماذا تستطيع "الحزبية العربية" عموماً، ان تقدم من هياكل دراسة على الأقل حول هذه المشكلات التي ما زالت مطروحة بحدة، وعلى وجه "خطر" ايضاً. الأرجح ان "تسطيح" الحياة السياسية العربية صار هو السائد، وأن "نفي" المواضيع، صار الأسلوب المعتمد في حلّها!! فحيث لا مشكلة، لا تحضر ضرورة المعالجة!... ولأن الحقيقة اختزلت الى مجرد هياكل حزبية خاوية، ذات "فرضيات جامدة" فإن سلامة التحليل مؤمنة، طالما ان سلامة الحزب المحلل موفورة. لطالما دارت الحياة خارج أسوار "الحزبية الضيقة"، ولطالما حثّ التاريخ سيره، بمعزل عن "صناعه" القاعدين على أرصفة المتفرجين. ليست النتيجة وردية، بل هي قاتمة على كل الصعد. "وحدة القوميين العرب" التي اعتبروها "ثورة تحررية كبرى في ذاتها" أخلت الساح "لإقليميات" مفرطة في خصوصياتها، وممعنة في سياسات دفن الرأس في الرمال. وفلسطين، "ثأر الأمة العربية" زادت قوة العدو فيها وترسخت، إضعاف ما كان قد رصده "القوميون" في زمانهم، اما "هدف الصلح مع العرب" فقد تحول الى شروط مذلة ومهينة، وفق دفتر "المتعهد الاسرائىلي" فيما ترك "الفلسطيني لشأنه من دون اهتمام "بتنظيمه" او بتوفير سبل الدعم له، حتى التضامن معه صار امراً عربياً مستعصياً. ضمن هذه اللوحة، ازداد تدخل "هيئة الأمم في شؤوننا وعلى حساب امانينا المشروعة" كان الامر موضع شكوى من قبل "حركة القوميين العرب"، و كان له ما يخفف من آثاره، في لعبة التوازنات الدولية، وفي سياسة "الحياد الايجابي" - لقد آل الأمر الى انفراد دولي" يفاقمه "توحد العرب" في التراجع وفي قلة الحيلة سياسياً. اذاً، كل ما لدى "القوميين العرب" في السابق، يدعو الى التفكير في الراهن. وما أكدوا عليه من "أخلاقيات" يكتسب صدقية من "واقع الفساد العربي" الذي عمّ واستشرى. ليس في الامر موقفاً مثالياً، بل دعوة لربط "السياسة بالاخلاق"، على رغم المعرفة بأن الاخلاق تدفع في عالم السياسة من حسابها وبأن الوسائل المعتمدة تعبر دائماً في مجالها، وتدوس غالباً على مفاهيمها. قد لا نوافق على المبالغة التي اعتمدها الخطاب "القومي العربي" وقد لا نستسيغ شحنته الوجدانية، لكننا لا نستطيع ان ننكر بحال من الاحوال انه يمسّ الأصيل في الشخصية الانسانية، وانه جزء من معركة "أنسنة" السياسة، السائرة حثيثاً نحو مزيد من البربرية والتوحش. * كاتب لبناني.