جرت العادة أن يتناول أي كاتب أو أديب أو صحافي قلمه ويحاول أن يختصر في سطور فصولاً سريعة من ذكريات جميلة أو مؤلمة من حياته. لكن أن يكتب المرء عن تجاربه مع الكذب، فقد يبدو الأمر للوهلة الأولى سذاجة أو "كلاماً فارغاً"، أو حتى "حماقة" في نظر البعض، ما دام الكذب صفة مذمومة في جميع الديانات والمجتمعات. وفي فترة المراهقة والشباب، تتحول قصص الكذب في كثير من الأحيان إلى نكات نتداولها في جلساتنا الحميمة، وقد نجد فيها فرصة للترويح عن النفس. ونشتاق لمجالسة إنسان يتحرّى الكذب، نستمتع بنوادره ونتشدّق لهفاً لتلقي آخر إبداعاته بغرض المرح ليس إلاّ، بل إننا نحرص على تذكرها وننقشها في أذهاننا لنسردها بكثير من السخرية والهزل أمام شلة أخرى من الأصدقاء. وعلى مقربة من عتبة الثلاثين، لا تستوقفني مغامراتي مع الكذب، بقدر ما تستوقفني مواقف الأسرة والمحيط وأساليبها في تربيتنا، وكيف نجحت في زرع الرعب في نفوسنا وجعلتنا نقتنع بخطورة الكذب وضرورة الإقلاع عنه. وليس معنى ذلك أن المرء لم يعرف الكذب، فذاك الكذب بعينه. كان سهلاً للغاية، أن يختلق المرء آلاف الأعذار والأكاذيب، كي يتهرب من الذهاب إلى المدرسة في عزّ أيام الشتاء. وحينما ينسى الواحد منا، أو يتناسى أداء الفروض المدرسية في البيت، ثم يتذكر وجه الأستاذ ووحشيته وهو يمسك بعصاه الغليظة لينهال عليه بالضرب، ويتفنن أحياناً في القيام بذلك بحجة التربية. الخوف حينها يحوّلك إلى مبدع، تختلق في رمشة عين أروع أكذوبة، لتقنع بها المعلم بالرأفة عليك، حتى وإن اقتضى الحال أن تتظاهر بالإغماء أمامه من شدة الخوف لتنجو من المقصلة بأعجوبة، كما كان يفعل أحد أصدقائي في المدرسة الابتدائية. وتستوقفني هنا أكذوبة مارستها على أحد أساتذتي لأنجو من عصاه الغليظة، يوم كنت طالباً في الإكمالية: حدث في يوم من أيام رمضان أن شاركت في مباراة لكرة القدم، ومن سوء حظي أنني ضعيف البنية، فتعرضت لصدام عنيف بيني وبين أحد اللاعبين، هويت بسببه أرضاً. فكسرت يدي اليمنى، وبقدر ما كنت أعاني من آلام الكسر، بقدرما أثرت شفقة أصدقائي وأساتذتي. كانت نفسي توسوس لي بين الحين والآخر بأفكار شيطانية، أستغل عطف الأساتذة، لأنال شفقتهم كل مرة لا أنجز فيها واجباً منزلياً او لم يتسن لي مراجعة دروسي. وكثيراً ما كان الأساتذة يتراجعون عن معاقبتي وتجدهم يرأفون بي، لأن يدي المكسورة واجتهادي كانا يشفعان لي، حتى أنني جعلت أستاذة العلوم الطبيعية تلحّ في طلب المعذرة مني، لأنها حاولت أن تدير لي يدي، لحظة كنت أمارس مشاغباتي مع أحد الزملاء. ولا يختلف الأمر كثيراً في المنزل، فحينما تكثر عليك إملاءات الأم وطلباتها، ولا تتفهم رغبتك الجامحة مثلاً في الالتحاق بزملائك في مباراة لكرة القدم، أو مشاهدة حلقة مسلّية من الرسوم المتحركة أوشكت حلقاته أن تنتهي، تبدأ بحياكة الأكاذيب على أمك، وتنجح بمهارة فائقة في اختلاق أي عذر للتهرب من فرض منزلي، كأن تقول "عذراً ماما، سألتحق بزملائي لإنجاز تمرين لم أستوعبه". والحقيقة، أن طيش الشباب وحيله، لا تجدي دوماً نفعاً، أمام دهاء الوالدين وتجربتهما. فكم مرة سمعت كلمة "الأكاذيب التي تختلقها سبقتك إليها كلها"، وإذ ذاك تجد نفسك تتوسّل للهروب من العقاب، وكثيراً ما يغلب الضحك على الغضب، فيستسلم الوالدان أمام حماقاتك. وتنتابني هستريا من الضحك، وأنا أتذكر الأساليب التي يعمد إليها بعض الأولياء لوضع حد للكذب، حينما لا يجدي الكلام نفعاً. مرة أشعل والدي عود الكبريت وأوشك أن يضعه فوق لساني، لولا أن سارعت لأعلن توبتي! وكم مرة، نفذ صبر امي فأعطت اخي الاكبر الضوء الأخضر، فتحول في لمح البصر إلى "إرهابي" يمسح لساني بقطعة من الفلفل الحار. فأنفجر كالمجنون أبحث عن مهدئ وأتعهد ألا أعود للكذب ثانية. وتتعدد الأكاذيب لدى الشباب أيضاً لتغليط بنت جميلة وإيقاعها في الفخ، أو العكس، حتى إن اقتضى الحال لدى أحدهم استلاف سيارة أو لباس راق لمغازلة فتاة جميلة وإيهامها بأنه غني وبمقدوره أن يوفر لها السعادة المطلوبة، قبل أن تستفيق هي على كابوس مزعج! ومن باب المصارحة القول، إنه باستثناء الكلام المعسول الذي يروق لي أن ألاطف به الجنس الآخر، لم أكن يوماً بطلاً في مغازلة البنات، ولم يكن ذلك مذهبي. ثم إنني وبصراحة لا أعاني إفلاساً مع الجنس اللطيف. لكنني طالما شهدت وسمعت أكاذيب عجيبة من قبل أصدقائي المحترفين في مغازلة ومعاكسة البنات، وتستوقفني هنا قصة حكيم 28 عاماً، الذي احب سارة 26 عاماً منذ عامين، وقال لها أنه مطلق وله طفل صغير في كفالته. وبعد مرور اكثر من عام كامل على علاقتهما، جاءتني سارة ذات يوم، تخبرني بأن حكيم اعترف لها بأنه لم يتزوج يوماً ولم يكن له طفل! فاندهشت، وسألت "ما الذي دفعه ليغامر بعلاقتكما بكذبة كهذه، وكيف لم يخش أن ترفضي الارتباط به"، فأجابتني بنبرة الحائرة: "قال إنه فضل هذه الطريقة ليقتنع ويتأكد من حبي له، ومدى استعدادي للتضحية من أجله، ثم إنه كان يحاول كل مرة أن يكشف لي الحقيقة، لكنه لم يجد الظرف المناسب".