هلع أصاب خالاتي وأهلي في بيت جدي في محافظة كركوك بعد أن شاهدوا البقعة الحمراء التي رسمتها بعناية تامة على ساقي. جرت العادة ان نزورهم سنوياً في العطلة الصيفية، انا واهلي واخوتي قادمين من بغداد. قلم "ماجك" أحمر ودافع قوي للكذب هما كل أدوات العمل التي أحتجتها كي أصل الى البقعة الحمراء التي حرصت على تجديدها يومياً. كنت في سن المراهقة الأولى، 13 عاماً ورحت أمرر قلم التلوين عليها، للمحافظة على أحمرارها مع التركيز والدقة لإنجاح المهمة، وعدم توسيع النقطة المرسومة أو تصغيرها في شكل يثير الانتباه، ويكشف أمر كذبتي الصبيانية. كانت خالاتي في البيت الكبير يحرصن على مساعدتنا في الاستحمام، ظناً منهن أننا غير قادرين على تنظيف أنفسنا بعناية، وكأن فحصاً للنظافة ينتظرنا بعدها! والإستحمام، واجب يومي لا بد من القيام به، خصوصاً في قيظ الصيف العراقي، على رغم الفارق النسبي في درجة الحرارة بين بغدادوكركوك. كانت دقائق الإستحمام هي الفترة الأصعب علي في الحفاظ على عدم معرفة أحد بكذبتي، وانكشاف سرها! حيث كنت أتظاهر بالخوف من أن تقترب خالتي من نقطتي الحمراء المدللة، فما كان من خالتي المسكينة الا أن تقدر شعوري بالخوف لتبعث في نفسي الطمأنينة والراحة بكلمات تعطي السكينة والدفء لكذبتي! مرت الأيام فزاد قلق أمي وخالاتي علي، خصوصاً انهن من النوع الذي لا يفارقه الوسواس، ويستمتعن بتأويل العوارض الجانبية الصحية التي تصيبهم. المساكين الذين انطلت عليهم كذبتي عللوا حالتي المرضية هذه في البداية على أنها نوع من الحساسية او بسبب لسعة حشرة ستزول آثارها بعد حمام بارد. جاء اليوم الثاني، وقلم ماجيك لا يزال يفعل فعلته بل يضاعف من قلقهم وتوترهم! وفي اليوم الثالث، وبعد طول انتظار زوال البقعة الحمراء التي أصبحت حديث الساعة والشغل الشاغل للبيت كله، وكادت أن تفسد عطلتنا السنوية في كركوك، قررت خالتي التي كانت مشرفة على الممرضات في أحدى مستشفيات المدينة، عرضي على أحد الأطباء في المستشفى الذي تعمل فيه! وهنا، وقع الفأس في الرأس. كيف سأداري حرجي من كذبتي أمام الطبيب المعالج؟ ماذا يكون موقفي أمام خالتي؟ أتذكر جيداًَ وقتها انني لم أشعر بحرج كبير أمام الأهل، أو ربما شعرت بالقليل منه، لأنني لم أتعود الكذب كثيرا. لكن، ما أستوقفني وأحترت لأمره، وكيفية التخلص من الورطة التي جلبتها لنفسي بنفسي، هو قرار خالتي، بأخذي الى الطبيب وكشف مشكلة الكدمة الحمراء أمامه! ربما لأنني كنت مدركة أن أهلي لن يقسوا علي كثيراً، ان اكتشفوا أمر كذبتي وإن خبرها لن يبارح بيتهم وسيبقى محصوراً بأفراده. خصوصاً، أنهم بعيدون كل البعد عن أساليب العقاب القاسية التي كان يتلقاها مكسيم غوركي في طفولته على يد جده، من ضرب بالسوط حتى الإعياء! خانتني عيناي بعد قرار خالتي الحاسم. فبدأت نظرات القلق والخوف تتجول فيهما بحرية، وأخذت الأوعية الدموية لقزحيتهما، تكبر وتنتفخ من الخفقان الذي أصاب قلبي. انكشف أمري لخالتي المهتمة بحماماتنا. فخرجت وفاجأت حشد الأهل بأنني أكذب، وأن صحتي أحسن من الجميع ولا شيء يستدعي ذهابي الى الطبيب. بالتأكيد وعلى رغم قلقي لم أقف مكتوفة اليدين بل حاولت معالجة كذبتي والتستر عليها قدر الأمكان، والدفاع عن النفس، إلا أنها تحدتني قائلة: "سأجلب الفرشاة الخاصة بالحمام والصابون كي أزيل البقة". وطبعاً لا أحد يستطيع منافسة خالتي في خبرتها بالتنظيف! أنتقل الإحمرار الى وجهي، وضاعت حيلتي في الكلام. انتهت الكذبة، وأصبحت من الذكريات، ومناسبة للتندر وتذكر الذكريات والمقالب. لكن لماذا كذبت علماً أنني لم أتعود الكذب ولم أتعامل معه كثيراً في طفولتي؟ وقتها لم أعرف السبب، ولم يجهد أحد نفسه في معرفته، أكتفوا بسلامة صحتي في دفق عاطفي لا يسمح للعقل بأن يأخذ دوره في مرات كثيرة. ودعت بيت جدي بحفلات البكاء الطويلة والمجهدة لي ولمن حولي، طلباً بالمكوث عندهم وقتاً اطول. كنت أحسب الساعات والأيام منذ لحظة وصولنا من بغداد، وأنقص اليوم الذي أعيشه بحزن، من مجموع المتبقي لنا. كثير من الحب لخالاتي ومشاعر الدفء العائلي كانت تربطني ببيت الجد وتعتقني من التزامات الدراسة التي صبغت حياتي بالجفاف. فنادراً ما كنا نخرج للفسحة، وغالبية فسحاتنا تركزت في الزيارات العائلية المملة. ربما لهذا لم اشعر بالحرج الكبير في التفكير بكذبة تساعدني في البقاء مدة اطول مع خالاتي. وان كانت كذبة "البقعة الحمراء" لم تؤد غرضها في البقاء مدة أطول في بيت جدي، الأ انها اخذت منحى مختلفاً بالصدفة طبعاً، عندما اضطررت الى الكذب مرة ثانية وأنا طالبة في المرحلة الجامعية، وكان عمري 20 عاماً. كنت أستغل عطلتي الصيفية بالعمل، لضمان الإستمرار بدراستي، ونحن نعيش بدايات الحصار الأميركي على العراق، وبعد أن عرف الجوع طريقه الينا. في نهاية الفترة المقررة للعمل، أمتنع مديري عن أعطاء الموظفين العاملين معه رواتبهم، بحجج دبرها بذكاء لنفسه، في وقت كان فيه القانون العام يقول: "البقاء للأقوى وليس للأصلح". حاولت اقناع مديري بحاجتي الى الراتب وبأنه حق لي عنده، ويظهر أنني تكلمت كثيراً ودوخت صاحب الفخامة، فاضطر الى أن يمررني ببعض الأجراءات الرسمية، المرهقة وعديمة الجدوى كي أرجع أدراجي بخفي حنين. كان المدير قد اتفق مع أفراد عصابته على عدم أعطاء أي موظف ورقة تثبت أنه صاحب حق. توجهت اليه مرة ثانية علني أستطيع إقناعه، فسألني ان جئت بالورقة المطلوبة، فأجابته بنعم وأوصالي ترتعش من خوف كشف كذبتي. اندهشت تماماً عندما لم يطالبني بالورقة بل مد يده الى جيب سترته وأخرج منه نصف المبلغ الذي أستحقه! لم أحزن لخسارة النصف الآخر بقدر فرحتي بأن الكذبة أنطلت عليه.