كنت في الجزائر مع رشيد بوجدرة والزاوي أمين. حدثنا رشيد العائد لتوه من معرض فرانكفورت عن رفيق شامي، فتجدد فضولي لأقرأ له، منذ سمعت باسمه للمرة الأولى. وتجدد فضولي ثانية حين قرأت عنه ما قرأت في "أخبار الأدب" القاهرية، وها هو الفضول سيبل ريقه قريباً بما وعد به خالد المعالي الحياة 27/10/2004 من نشر الترجمة العربية لكتاب رفيق شامي "التقرير السري عن الشاعر غوته". لكنني قرأت عن حديث شامي في ندوة على هامش معرض فرانكفورت في مدينة هايدلبرغ يوم 11/10/2004 وفيه يقول رفيق شامي "ان البلدان العربية عايشت انظمة ديكتاتورية بشعة، لكنه لا توجد لدينا أعمال روائية تستحق الذكر تناولت هذا الموضوع، وهذا دليل على الحالة السيئة التي وجد الكاتب العربي نفسه فيها، الا انه قرأ أخيراً رواية اذهلته لكاتب عراقي مجهول ومشرد اسمه مهدي حيدر والرواية هي: "عالم صدام حسين"، وهذه الرواية لم تنشر في العالم العربي، بل نشرها كاتب وناشر عراقي مشرد في المانيا". ولأنني أتابع بخاصة التعبير الروائي العربي عن الديكتاتور والديكتاتورية، أدفع بهذه السطور. والحق ان هذه السطور هي موجز لخمس وعشرين صفحة شكلت مساهمتي في مؤتمر حرية التعبير الذي عقد في مكتبة الاسكندرية 18 - 20/9/2004. وتلك المساهمة هي موجز ما كتبته عن الروايات العربية التي شغلها الديكتاتور والديكتاتورية، كرواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر"، وبخاصة في فصل اللوياثان. وبعد سنتين من رواية حيدر جاءت رواية مؤنس الرزاز "متاهة الأعراب في ناطحات السراب" لتلعب باستراتيجية اللاتعيين التي كان عبدالرحمن منيف راهن عليها وبتلك الاستراتيجية، عرى الرزاز الجذر المكين للديكتاتور العربي منذ ذيب - ذياب - الذئب الأول الى الجنرال الأول عبر تاريخنا المجيد، الى أن بلغ يومنا من ثمانينات القرن الماضي، أي يومنا هذا من القرن الحادي والعشرين، أي الى يوم غير منظور في الأفق الذي يحكم اغلاقه الديكتاتور العربي الصغير بفضل الديكتاتور العالمي الكبير. ولأن هذا المقام مقام رسالة، سأسرع الى السنوات القليلة الماضية التي تواترت فيها روايات واسيني الأعرج "المخطوطة الشرقية" وسالم بن حميش "فتنة الرؤوس والنسوان" وأبو بكر العيادي "آخر الرعية" وفاضل العزاوي "الأسلاف" وهاني الراهب "رسمت خطاً في الرمال" وخيري الذهبي "فخ الأسماء" ونجم والي "تل اللحم"... ورواية غازي القصيبي "العصفورية" التي لعبت باستراتيجية اللاتعيين، كرواية مؤنس الرزاز، وكما ستتابع بقية الروايات المذكورة. وإذا كان لمن يشاء أن يسارع الى تعليل هذه اللعبة - الاستراتيجية بالتقية، فإنني أسارع الى التوكيد ان الرقيب العربي بلغ من المكر والخبرة، بل والثقافة، حداً لم تعد تنفع معه التقية، وبخاصة أنه ينطلق من سوء النية، ومجبول على سوء الطوية. وعلى أية حال، فتلك اللعبة - الاستراتيجية، حين تكون بيد كاتب مثل الكتّاب الذين ذكرت، فإنها تشرع أفقاً رحباً ومغوياً للتشكيل والقراءة. وبزعمي ان المثل يصدق هنا رب ضارة نافعة، هذا ان كانت التقية والرقابة وحدهما حقاً سبب اختيار تلك اللعبة - الاستراتيجية. من ناحية أخرى، تواصل تلك الروايات الحفر في التاريخ، ومنها ما اكتفى بذلك مثل "فخ الأسماء"، ومنها ما وصل الأمس أو أول الأمس باليوم أو باليوم وبالغد، فإذا بجنرالات "العصفورية" يتشكلون من صلصال صدام حسين وآخرين لا أجرؤ على أن أسمي أحداً منهم، كما لم يجرؤ غازي القصيبي، وان يكن رمى بإشارة الى القذافي. وعلى أية حال، فقد سعيت الى أن أتبين في هذه الروايات وفي سواها ما توسلته من اللعب بالمكان والزمان والسخرية والتناص والتقمص واللغة والتأثيل. وكل ذلك ليس إلا من تشكيل الرواية العربية للديكتاتور. أما تشكيلها للديكتاتورية، سواء أكانت حزبية حاكمة أو معارضة، ودينية أم أسرية أم عولمية... أما هذا فهو مرسح لعب بديع آخر وأكبر للرواية العربية، لكنه حديث آخر، عسى أن يتواصل مع رفيق شامي ومع غيره من المبدعين العرب المنفيّين، والذين يؤمل أن توفّر لهم المنافي امكاناً أكبر للتشكيل الروائي وغير الروائي للديكتاتور، فربَّ ضارة نافعة حقاً.