مهران كريمي ناصري، 59 سنة، شخصية مثيرة. ليس فقط بالنسبة الى المخرج الأميركي ستيفن سبيلبيرغ بل لأي انسان عادي لا يرى في مطارات العالم سوى أبواب تفتح للدخول والخروج... للعبور، ليس إلا. فهذا المنفي الإيراني، يعيش في مطار شارل ديغول رواسي الفرنسي منذ ستة عشر عاماً فقط! ويرجع السبب الى قضية أوراق معقدة جعلته حبيس المطار لسنوات، الى أن قرر عدم الرحيل منه بعد أن استقرت حياته فيه، وأخذت تسير على منوال منتظم، وبات معروفاً من جميع العاملين في المطار. فقد قرر ناصري منذ أسابيع قليلة تغيير مكان اقامته والذهاب بعيداً الى أميركا. في عام 2001، اشترى منه المخرج الأميركي سبيلبيرغ حقوق قصته بآلاف الدولارات ليستوحي منها فيلمه الأخير "ترمينال". هل يمكن التعبير عن عدم الاعجاب بفيلم سبيلبيرغ الأخير، وهو المخرج الذي طبع السينما الهوليوودية بأسلوبه من خلال 24 فيلماً قدمها على مدى ثلاثين سنة: E T و"انديانا جونز" و"قائمة شنيدر"... ونال جائزتي أوسكار وجائزة للسيناريو في "كان" لم ينل جائزة الاخراج؟ ترانزيت فيكتور نافوروسكي توم هانكس آت من "جمهورية كراكوزيا". جمهورية متخيلة لكن الاسم بالطبع يوحي بموقعها. أوروبا الوسطى حيث الحروب والاضطرابات. وهذا ما حصل بالضبط. فما إن وطأت قدما فيكتور أرض مطار جون كنيدي النيويوركي، حتى بدأت شاشات التلفزة التي تملأ المطار بالإعلان عن انقلاب عسكري في كراكوزيا. الحكومة الأميركية لم تعترف بالانقلابيين. وبالتالي، فإن هذا البلد لم يعد موجوداً بالنسبة اليها، وجواز سفر فيكتور لم يعد معترفاً به. ما العمل؟ حصر المسافر في منطقة الترانزيت. غير مسموح له بالمغادرة حتى يأتي الفرج! فيكتور الذي لا يتحدث إلا بضع كلمات من الانكليزية، كان من الصعب عليه فهم ما جرى بالضبط. وحتى عندما فهم في ما بعد وحاول المسؤول عن الأمن في المطار التخلص منه وفتح سبل غير قانونية أمامه للخروج، ليتخلص من هذا العبء الذي بدأ وجوده في المطار يثقل عليه، فإن فيكتور بدا عنيداً في اصراره على عدم الفهم والتجاوب. أظهر المخرج الشخصية في صورة مضحكة تبعث على السخرية. صورة تمثل هؤلاء الآتين من بلدان لا تنتمي الى العالم المتمدن، بملابسهم البائسة التي عفا عليها الزمن، بأسلوب كلامهم وتصرفاتهم مع الآخرين، بنظراتهم التي يبدو فيها شيء من البلاهة، بطيبتهم بل بسذاجتهم أمام ما يدور من حولهم. وسطّح السيناريو الشخصية وحصرها بالفعل، ليس فقط في ردهات المطار الأميركي، وانما ضمن صور متخيلة لهؤلاء الآتين من عالم آخر. بدأ فيكتور العمل سراً في المطار. ووقع في حب مضيفة ساحرة كاترين زيتا - جونز لا تمت الى عالمه البسيط بصلة. فهي نموذج عن الإنسان في هذا العالم المعاصر الحافل بالحركة والعصبية والانفعال. هذا العالم "المتحضر" الذي يجعل من الإنسان كتلة من الأعصاب المهتاجة والمشاعر المضطربة ويدفعه الى الحركة الدائمة واللااستقرار. أراد السيناريو لشخصية فيكتور أن تبدو بمواقفها العفوية أقوى من المسؤولين عن أمن المطار، وأكثر تأثيراً في مجريات الأمور، لما تتمتع به من حس مرهف ولانتمائها الإنساني الذي يجعلها تتعاطف مع الآخرين ولقدرتها على حل مشكلاتهم، لكنه فشل في اقناعنا بقدرتها العجيبة تلك، وهو يبديها بسيطة، مضحكة بعنادها واصرارها على عدم فهم ما يطلب منها. وخرج الفيلم تسطيحاً للقصة الأصلية، وللمشاعر الإنسانية والقلق الذي يستبد بنفس من يقع في جو محصور كهذا. اضافة الى ما امتلأ به من الكليشيهات المصاحبة للسينما الأميركية: الموسيقى الرومانسية والنظرات الحالمة والعناق المفتعل الذي طال انتظاره والذي لا يمكنه أن يقنع أحداً بأن ثمة عواطف حارقة خلفه! وجاء الكادر مرسوماً بعناية فائقة صور الفيلم في جزء منه في مطار جون كنيدي النيويوركي ومعظمه في مطار ميرابل في الكيبك. فأتى مصطنعاً بحركة الرواح والمجيء في المطار ما أعاد الى أذهاننا المسلسلات العربية حيث يزرع المارة بين الفينة والأخرى كأنهم نبتة برزت فجأة أو آلة كبست أزرارها لتتحرك. في هذا الفيلم يوقع المخرج العمل الثالث له مع الممثل توم هانكس الذي سعى للحصول على الدور قبل أن يعرضه سبيلبيرغ عليه. وقد نجح في اظهار البلاهة على مواقفه واضحاكنا على رغم المبالغة التي وقع فيها وسيطرة الافتعال عليه. ولكنه ليس توم هانكس الذي نعرفه. بيد ان ثمة ايجابية في هذه الكوميديا الانسانية، ظهرت في النظرة "الودية" الى قاصدي أميركا والترحيب بهم: "أهلاً بكم في الولاياتالمتحدة"! وبعض هؤلاء ليسوا فقط من المهاجرين الباحثين عن رزقهم، بل يمكنهم أن يكونوا سياحاً مثقفين، على الأقل موسيقياً، على رغم مظهرهم البائس. ففيكتور جاء الى أميركا بهدف الحصول على توقيع عازف جاز شهير ليضمه الى قائمة طويلة من التواقيع كان والده بدأها عبر البريد ولم يترك له فرصة اكمالها. وكان هذا هو العهد الذي أخذه فيكتور على نفسه تجاه والده الراحل!