يعرف عن العراق لذة فاكهته، غير ان طعماً يختلط بالمرارة ذلك الذي بات مرافقاً لفواكهه "الغنائية" التي ضربت بقوة في اسواق عربية، وخليجية تحديداً، فبعد "برتقالة" المغني العراقي المقيم في دبي علاء سعد والتي جاءت في "سلال" من عشرات الأرداف الراقصة... كما في صورتها المعلنة عبر فيديو كليب اكثر سذاجة من الأغنية ذاتها، جاءت "الرمانة" واخيراً "مشمشة"، لتكشف تلك الألحان الراقصة والأداء الغنائي المسطح عن مفارقة في حال العراقيين، ونتاجهم الغنائي والموسيقي تحديداً، فكلما "ثقلت" ازمات البلاد كلما "خفت" ألحانها؟ وفي مراجعة لنتاج غنائي عراقي يبدو مخالفاً للصورة النمطية ل "الغناء الحزين"، سيجد المتابع ان "اساطين" السذاجة اللحنية والأدائية خرجوا من معطف "تلفزيون الشباب" الذي روج من خلاله عدي نجل الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين وعبر اشراف مبرمج، لنمط غنائي كان يقصد "ادخال الفرح" إلى قلوب العراقيين التي انهكتها احزان الحروب والحصارات. جيل "تلفزيون الشباب" واذا كانت بدايات صاحب "البرتقالة" تشي بملامح غنائية تتصل بالتطور الطبيعي للنتاج الغنائي العراقي، الا ان علاء سعد وبعد تحوله نهايات عقد الثمانينات وما تلاها مطرباً في النوادي الليلة والفنادق، كشف عن اجادته نمطاً من الأداء يلقى رواجاً بين رواد امكنته تلك ويقترب من ذائقتهم... فظن الرجل ان صورة اللحظة الإنسانية في بلاده باتت تختصرها اجواء اغانيه بين رواد من فئات طفيلية ك"تجار الحرب والحصار"، ومن اصحاب مواقع النفوذ الأمني والحزبي. وظل مستوى الإحساس بالكارثة الوطنية يتضاءل، ليس عنده وحسب، بل في جيل "تلفزيون الشباب" فسلّم وزملاؤه سلال "الفواكه" الى الأجساد الراقصة في صورة تكتظ بالمفارقة: الرقص غنجاً ودلالاً في ما تهرس القذائف اجساد الناس في البلاد. ان "مشمشة" سداد علي تحاكي النمط الساذج لحناً وكلاماً واداء "اغاني الفواكه"، وهي تعكس هوساً غريباً عند العراقيين بان يخلطوا الإعجاب بالحبيب مع مفردات الطعام واوصاف تدل الى الالتهام، فمن "خدك القيمر انا اتريق منه" للراحل ناظم الغزالي الى "تمر البصرة" كما في اغنية إلهام المدفعي... مروراً ب"تريد مني الرمان" للمطرب فاضل عواد، الا ان "ايقاع العراق هذه الأيام لا يحتمل مزاحاً كهذا"، وهو ما يتضح في استجابات ملحنين عراقيين شكلوا محور الغناء المعاصر في بلاد الراحل محمد القبانجي، فثمة صمت ثقيل يخيم على طالب القره غولي، وحيرة تستبد بالعائد من منفاه الملحن كوكب حمزة، وسؤال يلاحق بالحرج صوت المطرب فؤاد سالم، بينما يظل الملحن جعفر الخفاف متوارياً وهو العارف بأن رهافة الحانه ليس لها من يغنيها هذه الأيام وإن كان اقدم على تسجيل عدد منها بصوت زوجته المتوقفة عن الغناء، وراح يسمعها لعدد محدود من اصدقائه. مفارقة ازمة البلاد "الثقيلة" وانتاجها الحاناً "خفيفة"، تجد عراقياً وحتى عربياً، نقيضها، في ثلاثة عقود من تاريخ العراق المعاصر 1958 - 1978، انتجت قرائح ملحنين واصوات مغنيات ومغنين اعمالاً كبيرة ومن النوع "الثقيل" في قيمته الفنية... بينما كانت البلاد تشهد ظروفاً من البناء الجدي. وتغيرت الحال مع بدء مراحل الهدم والتدمير المنظمة، فكلما ازدادت نعوش العراقيين ودخلت البلاد مراحل العزلة... "خفت" الألحان، وتراجعت الذائقة.