يخيّل اليّ أحياناً ان اضفاء ملكة العقل على الانسان كان خطأ من الطبيعة غير مقصود، او هو مقصود ولكن الغرض الاوحد منه كان تزويده بسلاح شبيه بالمخالب والأنياب، مما يسهّل اقتناص الفريسة ويُسهم في الدفاع عن النفس، ثم تحول بعد ذلك الى اداء مهمات ابعد ما تكون عن مقاصد الطبيعة، بل ويعارض مقاصدها... ذلك ان غزارة انتاج الطبيعة لا بد من ان ينجم عنها حشد لا نهاية له من التركيبات المتباينة، ومصادفات عارضة غير مقصودة او متوقعة، كان عقل الانسان من بينها، عقل الانسان الذي قد يعتبر قمة الخليقة وتاجها، والذي قد يكون مسؤولاً عن جل ما يصيب الانسان من متاعب في هذه الحياة الدنيا. ربما وجدنا الدليل على ذلك في ما قد نصل اليه بالتأمل في ما حولنا من استنتاج للحقيقة التالية: وهي انه ما من شيء على ظهر الارض يوحي بأن الارض كانت مهيأة لاستقبالنا، او ايوائنا، او حتى اطعامنا، او انها كفيلة بارضاء الانسان العاقل... ثم دليل آخر: هو ان معظم مقتضيات التحضر والتمدن وتهذيب الاخلاق نجده مخالفاً لأغراض الطبيعة، مطالباً ايانا ببذل الجهد الدائم من اجل مقاومة الطبيعة ومجاهدتها واحباط محاولاتها المستمرة كي تعيدنا الى وضع الحيوان، وحتى تصبغ سلوكنا بصبغة السلوك الحيواني. ألا يكفي تأمل الحياة ساعة او بعض ساعة حتى نقتنع بأن هذه الارض التي نسميها ارضنا انما هي اصلاً للحيوانات والحشرات والطيور والنباتات وحدها من دون الانسان؟ اي شيء فيها يمكن القول إنه للانسان دون غيره؟ لا شيء... وللحيوانات والطيور والنباتات والحشرات؟ كل شيء... كهوف وغابات وأشجار وأنهار وغذاء وشراب هي في اصلها لتلك الكائنات، ثم كان ان تطفل الانسان الناطق عليها... قد يقبل ذلك الانسان ان يقتات الجزر او البصل او الفجل او ما شابه ذلك من مأكولات. غير ان هذه الاطعمة المناسبة تماماً للأرانب والماعز والغزلان انما فرضت على الانسان ثم اعتادها، بل وفرض عليه ان يحبها لمجرد انه لا يجد غيرها... تأمل سنابل القمح في الحقل، وانظر ان كانت قد نبتت لغير مناقير الطيور... هي لمناقير الطيور لا لفمي، وللأكل نيئة لا للطحن والعجن والخبز... فإن انت طحنت وعجنت وخبزت وأكلت من الخبز، فقد سلبت الطيور حقها، كما انك تسلب الثعلب وابن عرس حقهما حين تأكل دجاجة مشوية. ما من شيء في الطبيعة هو في اصله انيق او مثالي. وانما كانت الاناقة والمثالية من صنع الانسان، من صنع العقل الذي اضفى على كل شيء مسحة من الرشاقة والجمال، من السحر المجهول، من الغموض، من طريق تغنينا به، وتفسيراتنا اياه، وما اضفاه عليه شعراؤنا وفنانونا من مثالية... كان علينا ان نكدح وان نصبر، ان نبتكر وان ننشط، ان نشجع النابغين منا والحالمين والعباقرة حتى نحول هذا الموضع الفظ الى دار لنا نسكنها، وان نجعل ظروفنا محتملة على رغم الطبيعة، وضد الطبيعة... ولكي نخفف من تكويننا الحيواني اكتشفنا كل شيء، وابتكرنا كل شيء، بدءاً بالمنازل عوضاً عن الكهوف، فالطعام الشهي عوضاً عن اللحم النيئ، فالملابس والحلي، والاسرة والعربات، وما لا يحصى من الآلات، إضافة الى الكتابة والعلوم والرسم والموسيقى والشعر، وكل ما هو من نتاج مخيلة لم تكن من مقاصد الطبيعة، جعل حياتنا في هذا الكوكب المعادي لنا اقل إملالاً ومشقة. * كاتب مصري.