تشهد البلاد التونسية اليوم انتخابات تشريعية ورئاسية. وهي الإنتخابات الحادية عشرة منذ الإستقلال بالنسبة الى التشريعية والثامنة بالنسبة الى الرئاسية.لكن الإنتخابات تتالى ولا تتشابه. إذ تأرجح دور المعارضة خلال مجمل المحطات الإنتخابية بين المشاركة، في انتخابات 1956 و 1959 والإقصاء بداية من 1964 وإلى غاية 1979 في فترة نظام الحزب الواحد. ثم المشاركة من جديد بداية من 1981 بعد عودة التعددية. لكن دخول المعارضة إلى البرلمان لم يتحقق إلا في 1994 بعد تعديل المجلة الإنتخابية في 27/ 12/ 1993، فجاءت فترة جديدة أدت إلى إعادة تشكيل ملامح المعارضة ودورها في الحياة السياسية. وتندرج انتخابات اليوم في الخط نفسه الذي يضمن للحزب الحاكم غالبية مريحة جداً في البرلمان مع السماح ب"جرعة"من التعددية قدرها 20 في المئة من مجموع المقاعد. وبصفة أدق فإن 37 مقعداً من البرلمان المقبل ستسند للمعارضة بغضّ النظر عن عدد الأصوات التي ستحصل عليها. بينما لن يجد التجمع الدستوري الديموقراطي الحاكم أي صعوبة في الفوز في المناطق التي ستوزع على مستوى 26 دائرة انتخابية وعددها 152. حصرت طريقة توزيع المقاعد النيابية بدور أحزاب المعارضة في انتخابات 1994 و1999 في التنافس في ما بينها على الحصة المخصصة لها، من دون منافسة الحزب الحاكم الذي بقي فوق اللعبة الإنتخابية. لكن المعارضة تبدو عازمة على تخطي هذا السقف، نظراً الى اعادة تبلور بعض المواقف في اتجاه لعب دور مؤثر في الإنتخابات المقبلة. لكن الإنقسام الكبير حول طبيعة الدور الذي يمكن القيام به وطريقة تأديته، عمّق التشتت الذي تعاني منه المعارضة التونسية والذي يصل إلى حد القطيعة الكاملة في ما بين بعض أطيافها. إذ يوجد إنقسام أول بين صنفين رئيسيين من المعارضة. الأول، يتألف من أحزاب المعارضة التي لا تعارض السلطة بمقدار ما تؤيدها وتساندها من دون وجود إئتلاف وتحالف سياسي معقود في هذا الإتجاه. فهي مساندة طوعية من بعض الأحزاب التي اختارت مسار"المعارضة المسؤولة". وهي حزب الوحدة الشعبية وحركة الديموقراطيين الإشتراكيين والحزب التحريري الإجتماعي والإتحاد الوحدوي الديموقراطي. تمكنت هذه الأحزاب من العمل بدون أي توتر مع السلطة، كما"اقتلعت"النصيب الأوفر من المقاعد المخصصة في سنتي 1994 و1999 . وهي ستعمل على تدعيم الرصيد الذي تحصلت عليه، على رغم التصدعات الداخلية الكبيرة التي تعاني منها بسبب معارك المواقع المستفحلة بين قيادييها. أما القاعدة فهي غائبة ومفقودة أصلاً. أما الصنف الثاني فيضمّ المعارضة التي تعارض السلطة وتنتقدها بشكل صريح وواضح. وهي مزيج من الأحزاب المرخص وغير المرخص لها. تتشابه جميعها في علاقتها المتوترة مع السلطة لكنها تختلف أيما اختلفت في الموقف من الإنتخابات الراهنة. وهذا إنقسام ثان بين فريقين، الأول يضم حركة النهضة وحزب العمال الشيوعي التونسي والمؤتمر لأجل الجمهورية والتكتل الديموقراطي للعمل والحريات، وهي أحزاب محظورة جميعاً باستثناء الأخير الذي تحصل على الترخيص القانوني في 25 تشرين الاول أكتوبر 2002 . إختار هذا الفريق مقاطعة الإنتخابات احتجاجاً على ظروف إجرائها التي لا تضمن التنافس الحر والنزيه بين جميع الأطراف ورفضاً لترشح الرئيس زين العابدين بن علي لولاية رئاسية رابعة بالإضافة إلى التمسك بمطالب لتنقية الوضع السياسي بالبلاد خصوصاً بسن العفو التشريعي العام. أما الفريق الثاني فنأى بنفسه عن موقف المقاطعة واختار المشاركة لا لإنه غير مدافع عن نفس تلك المطالب، بل لإقتناعه بأن الإنسحاب لن يكون مفيداً للمعارضة الديموقراطية التي ليست لها أوهام حول نتائج هذه الإنتخابات لكنها تأمل أن تتوفر لها فرصة عبر المنفذ الإنتخابي للتعبير عن وجودها كقوى معارضة فعلياً للسلطة. ويتألف هذا الفريق من حزبين هما الحزب الديموقراطي التقدمي وحركة التجديد اللذان يتباين موقفهما حول كيفية المشاركة. فالأول شارك في الإنتخابات التشريعية وقاطع الرئاسية احتجاجاً على الطبيعة الإقصائية للقانون المنظم للإنتخابات الرئاسية الذي يحصر حق الترشح في عدد ضئيل من الأشخاص هم أعضاء الهيئات القيادية للأحزاب المسماة ب"البرلمانية"أي التي لها ممثل واحد على الأقل في البرلمان. وهذا ما أقصى نجيب الشابي الأمين العام للحزب الديمقراطي التقدمي الذي لم يسند له أي مقعد في البرلمان. وأخيراً اضطر الحزب الديموقراطي التقدمي لمقاطعة التشريعية ايضاً بسبب الضغوط التي تعرض لها مرشحوه. أما حركة التجديد فاختارت الإنخراط في المعركتين في نطاق"المبادرة الديموقراطية"، وهي بمثابة تحالف انتخابي لأطياف اليسار الشيوعي الديموقراطي الذي وجه الدعوة الى الإلتفاف حول مرشح وحيد للمعارضة الديموقراطية في الإنتخابات الرئاسية يكون أحد أعضاء المكتب السياسي لحركة التجديد الذين تتوفر فيهم الشروط القانونية للترشح للرئاسية. وعلى رغم الإهتمام الذي لقيته هذه المبادرة عند إطلاقها أواخر عام 2003، إلا أنها لم تفلح في إقناع جميع أطراف المعارضة بالإنخراط فيها. يبدو واضحاً مما سبق أن إستراتيجية المعارضة التونسية للإنتخابات لم تكن موحدة. بل هي متباينة إلى حد التضارب بين المشاركة بالمساندة والمشاركة بالمعارضة والمقاطعة التي يفترض أن تكون نشطة حسبما يبدو. لكن غاب عن البعض أن الإنتخابات كانت دائماً دافعاً رئيسياً لتكوين الأحزاب السياسية في المجتمعات الحديثة التي يتم التداول فيها على السلطة بطريقة سلمية. كما أنها كثيراً ما ساعدت على توحيد التشكيلات المتقاربة سياسياً وفكرياً بحثاً عن المزيد من النجاعة. غير أن ما يحصل في الساحة السياسية التونسية يبدو متضارباً مع هذا المنطق. فالمعارضة لم تعمل على الإستفادة من بعض الفرص المهمة التي توفرت في هذه المرحلة لتحقيق مكاسب سياسية جزئية ومتعددة الأوجه في علاقتها مع بعضها بعضاً وفي علاقتها مع السلطة، كخطوة مرحلية نحو النقلة النوعية التي لا يمكن أن تحصل إلا بمعارضة قادرة على الإستقطاب ومناخ سياسي عام مهيأ لذلك. وهذا أمر لا يتحقق في ظل واقع التشرذم والإنقسام بل يتطلب إعادة صياغة رؤية واقعية للعمل السياسي المعارض ووضع تصورات جديدة عملية وملموسة من شأنها أن تحرك الطاقات الكامنة في المجتمع. فالمعارضة التونسية أصبحت مطالبة اليوم أكثر مما مضى بإعادة تصويب إستراتيجيتها حتى تضمن النجاعة المطلوبة لعملها المستقبلي. وهذا هدف لا يمكن تحقيقه خلال الأيام المتبقية قبل موعد الإنتخابات، لكنه قابل للإنجاز على المدى المتوسط متى توفرت الإرادة لذلك وتحول إلى مشروع سياسي تعمل لأجله جميع القوى السياسية في البلاد. * أستاذ في الجامعة التونسية.