John Key. Thawing the Wind-Seeds of Conflict in the Middle East. زرع الريح - بذور الصراع في الشرق الأوسط. Morray, London. 2003. 503 pages. قبل أشهر، أصدر المفكر الاميركي زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس السابق جيمي كارتر، كتاباً عن السياسة الاميركية في عالم ما بعد 11 ايلول سبتمبر 2001، عنوانه "الخيار: السيطرة الدولية او القيادة الدولية". وقد رأى بريجينسكي ان الخطأ الأعمق في هذه السياسة هو انها لا تأخذ بعين الاعتبار التاريخ السياسي للشرق الاوسط، خصوصاً علاقة هذا التاريخ بظاهرة الارهاب الذي تواجهه اميركا راهناً. وشدد على ان تجاهل تاريخ المنطقة ادى الى تخبط استراتيجي في مقاربة الرئيس جورج بوش وادارته، وكذلك مجمل تيار المحافظين الجدد، في الحرب ضد الارهاب، خصوصاً مع الاحتلال الاميركي للعراق. وتذكّر دعوة بريجينسكي الى ضرورة عدم تجاهل التاريخ السياسي للشرق الاوسط بكتاب آخر صدر في اواخر العام الماضي، شدد على اهمية التعمق في تاريخ المنطقة كجزء اساسي من أي مقاربة استراتيجية ناجعة لها. ونبّه الكتاب هذا، "زرع الريح - بذور الصراع في الشرق الاوسط"، الى اهمية التفكير بعمق في امور عدة، لعل ابرزها: كيف ولدت الخريطة الجيوبوليتيكية لهذه المنطقة اصلاً، وما الذي ابقى على تماسكها، معظم الوقت، ضمن الحدود التي رسمتها الدول الغربية الكبرى بعد الحرب العالمية الاولى وانهيار الامبراطورية العثمانية؟ وكذلك ما الذي منع تفتتها الى وحدات اقليمية اصغر، وما الذي حال دون اندماجها في تجمعات اقليمية اكبر؟ في هذا السياق، تبدو مثلاً الوحدة المصرية - السورية 1958-61 وكأنها خروج قصير عن "اللعبة" في الشرق الاوسط. فقد انتهت تلك التجربة بسرعة كبيرة، وظلت حدود سيايكس-بيكو محفوظة. و لعل ذلك نموذج عن امر هو في أصل تكون المنطقة: ذاك انه ظهر ميل العرب الى "الوحدة" مبكراً خلال عملية نشوء المنطقة، فمن اين جاءت سياسياً فكرة العروبة ودولتها؟ وكيف تعاملت الدول الكبرى مع هذا الأمر؟ يدخل جون كاي، وهو ديبلوماسي بريطاني تقلب في مناصب عدة في سفارات بلاده في المنطقة، تاريخ الشرق الاوسط من وثائق الدول الكبرى التي تولت عملية استيلاده والاستيلاء عليه. وهو يقرأ وثائق المعاهدات العلنية والسرية، مثل سايكس - بيكو وتقرير لجنة كينغ كراين ومؤتمر سان ريمو وغيرها، فيذهب الى ارشيفات وزارات الخارجية البريطانية والفرنسية والاميركية، ويطّلع على كتابات الاشخاص الذين لعبوا ادواراً مؤثرة مثل "لورنس العرب" والمرأة الغامضة غيرترود بيل ومذكرات المندوبين الساميين والمفاوضين في مؤتمر فرساي، اضافة الى عرب مثل جورج انطونيوس ومراسلات الحسين - مكماهون وسواها، ثم يقارن فيرى ان الدول الغربية تتحمل المسؤولية الكبرى في التاريخ السياسي المضطرب لهذه المنطقة. فقد صنعت خريطتها بأيديها واتفاقياتها التي جاءت مدفوعة بالمصالح اولاً واخيراً. لكن المصالح لا تتحدث بلغة مكشوفة. فلتمويهها ساد خطاب الغرب السياسي، سواء داخل المؤسسات التي ادارت تقاسم السلطنة العثمانية، او التي روّجت له في الاتفاقيات والمحادثات. ومقولات الخطاب هذا انما تمزج بين المبادئ العليا والمعتقدات الدينية والعدالة والرغبات الشخصية وما الى ذلك. ويندر ان يبذل كاتب غربي كل هذا الجهد ليدين سياسة الغرب في المنطقة، لأسباب لا تحصى، كما يفنّد مقولاتها كأنها خطاب مديد من المخاتلة المستمرة والخداع. ويتصدى الكاتب لشخصياتها ليفك عنها الهالات الزائفة التي طالما احاطت بها، بدءاً من لورنس. ولعله صوت وحيد في هذا الامر، على الاقل في الزمن الراهن. فهو يتفرد في انه سبق ان عمل ديبلوماسياً ممثلاً لدولة عظمى بريطانيا في المنطقة. بعد التقصي الدقيق للبداية، ينطلق الكتاب، على النسق نفسه، ليستعرض قرناً من التدخل الغربي في صناعة المنطقة وصوغها وفقاً لمصالحه الاستراتيجية، خصوصاً الطاقة وخطوط التجارة الكبرى، وكذلك تفاعل المنطقة مع تلك الاستراتيجيات، في ظل معطيات دولية متغيرة. والحال ان الكتاب هو رصد نقدي مقارن للتاريخ السياسي للشرق الاوسط، او بالاحرى للعرب منذ1900 وصولاً الى احداث 11/9/2001. انه قرن من الفشل، لكنه قرن من فشل الغرب في صوغ سياسة متماسكة وملائمة وعادلة في التعامل مع العرب. في بؤرة كل المقاربة، يشدد الكاتب على فرادة الشرق الاوسط، لأنه قلب العالم فعلياً. فلم تقم اي امبراطورية من دون محاولة ضم الشرق الاوسط اليها، ولم تنهض اي دولة الى مصاف القوى الكبرى من دون ان تضع الشرق الاوسط نصب اعينها. وذلك سبب اول في المقاربة الخاصة التي حظي بها من الغرب. والشرق الاوسط، عند الكاتب، له قلب: سورية ومصر ولبنان وفلسطين والعراق. وهو يركز دائماً على هذه الدول، فيما تدخل الدول الاخرى من بواباتها. ويُستهل الكتاب بعبارة تدل الى مضمونه: "من يزرع الريح يحصد العاصفة"، وهي تكاد تُكثّف مضمون الكتاب كله. فقد دأبت الدول الغربية الكبرى على زرع الريح في تلك المنطقة، منذ مستهل القرن العشرين، فحصدت عواصف الاضطراب السياسي العميم التي ما فتئت تهز المنطقة، بل العالم. لكن تلك الدول أساءت دوماً، بحسب كاي، الفعل والتقدير. فعلاقتها مع الشرق الاوسط وشعوبه، اي العرب، انما دخلت في حلقة مفرغة من اللاجدوى، يغذيها التضارب في استراتيجياتها التي تتمحور حول الحفاظ على المصالح الاساسية، وتجاهل الارادة السياسية لشعوب المنطقة، والتدخل، الذي يمازجه الكثير من التلاعب، في تاريخها السياسي. يظهر اسلوب الكاتب ومقاربته منذ الفصل الاول "قش في مهب الريح" الذي يتحدث عن علاقة بريطانيا بمصر ايام احتلالها لها. ويتخذ من مقتلة دنشواي نموذجاً من الفشل في المقاربة السياسية لبريطانيا في مصر، ويرى ان دنشواي انحفرت عميقاً في اذهان المصريين كنموذج من السلوك الاستعماري المتغطرس والدامي، في حين كان ساسة البلاد يفاوضون بريطانيا باعتبارها النموذج الأعلى والأرقى. وهو يتتبع انعكاس مقتلة دنشواي في سلوك الزعيم سعد زغلول. هكذا يرصد تحوله من الاعتدال في التعامل مع المحتل البريطاني، الى السياسات المتصلبة، مما افضى الى ابعاده الى سيلان. واضافة الى المقتلة، فان سعداً قضى قرابة اربعين عاماً في مفاوضات عبثية مع الانكليز حول تطبيق المعاهدة مع مصر. والحال انه لم يكن متطرفاً، لكن التعامل البريطاني معه، ومع بلاده، دفع به الى اتخاذ منحى تصادمياً. وعلى النسق نفسه، وباستعمال مكثف لكتب ودراسات ووثائق غربية، يتتبع كاي تاريخ المنطقة بين عامي 1900 و1960، اي منذ التمهيد للدخول الغربي اليها وتفكيك الامبراطورية العثمانية الى التصادم الحاد بين تيار القومية الذي قاده الرئيس جمال عبد الناصر، والغرب. وبحسب الكاتب، لعبت مسألة نشوء اسرائيل والمأساة الفلسطينية دوراً اساسياً في التاريخ المعاصر للشرق الاوسط، منذ مستهل القرن الماضي. لكن تلك المسألة لم تكن اللاعب الوحيد، فنشوء الدول العربية نفسه، بعد الحرب العالمية الاولى، حمل الكثير من التناقضات التي حولت المنطقة الى بؤرة توتر دائم. ويحاول الكاتب، في القسم الاول، تقديم صورة مختلفة للورنس العرب. وبالمقارنة بين كتابات لورنس ومجريات الاحداث، يجد كاي طرقاً بين الثغرات التي يحدثها في صورة لورنس وبين البداية "المخادعة" لعلاقة الغرب والعرب. ويتابع التلاعبات اللفظية في نصوص مراسلات الشريف حسين والبريطانيين، ورسائله مع ماكماهون، ورسائل المسؤولين الانكليز الذين التقوه الى وزاراتهم، والرسائل بين الانكليز والفرنسيين عن الحسين وابنائه... الخ. ويقارن ذلك ايضاً مع نصوص وعد بلفور واتفاقية سايكس - بيكو وغيرهما، فيخلص الى ان لورنس لم يكن اقل ضلوعاً من غيره في "المخادعة" التي القت ظلالها على العلاقات العربية - الغربية. ولا يقصر كاي متابعته على الوثائق الغربية، بل يعطي اهتماماً للكتابات العربية، بدءاً من كتابات جورج انطونيوس عن اليقظة العربية. وتساهم تلك الوثائق في تركيز الضوء على الثغرة التي انفتحت تدريجياً بين العرب والغرب. وهو يعمل على تفكيك الكثير من الصور الشديدة الرسوخ في اذهان العرب والغرب عن احداث اساسية في تاريخ المنطقة. ويعطي الفصل السابع "نحن ملوك الشرق الثلاثة" مثالاً عن ميل الكاتب الى تقديم "رؤية بديلة" لما هو سائد عن تاريخ المنطقة، فيتابع خلع الملك فيصل الاول عن عرش سورية، ثم اعادة تنصيبه ملكاً على العراق. ويركز على شخصية نسائية عملت في الخارجية البريطانية، ضمن ادارة الانتداب في العراق، هي غيرترود بيل. ويرى ان تلك المستشرقة لعبت دوراً في تنصيب فيصل الاول ملكاً في بلاد الرافدين، كما يقدم وثائق بريطانية تثبت ان هذا التنصيب حدث بخلاف ارادة العراقيين. فقد استخدمت سلطات الانتداب مزيجاً من الرشوة والاغتيال والضغط واستعراض القوة، عبر العروض الجوية، والتدليس والتزوير، من اجل وضع فيصل في ذلك العرش! ويختتم الكاتب بفصل عنوانه "خاتمة - حصد الاعصار"، فيستعرض في شكل مكثف الاحداث الممتدة منذ ما بعد حرب السويس والوحدة المصرية - السورية. ويصف في عبارات مكثفة تماماً حرب الأيام الستة ووفاة الرئيس عبد الناصر وحرب تشرين الأول اكتوبر 1973 والحرب في لبنان والتحول السياسي في ايران والاجتياح الاسرائيلي للبنان وازمة الرهائن وعاصفة الصحراء وصولا الى احداث 11/9. لماذا التكثيف؟ لأنه مهد له في 450 صفحة ليصل الى الخاتمة التي تصف ذلك الحدث على النحو التالي: "مرة اخرى توقف الزمن. ومرة اخرى تذكرنا الغرب اين نحن. ولكن هذه المجزرة التي حصدت ارواحا بريئة لم تتحول الى درس نستخلص منه العبر" بل صارت رخصة للعدوان. لقد اختطف الامل، ووصلنا الى القعر".