السلطة للسنة على حساب الشيعة، استخدام القوة لجعل الاراضي الكردية منطقة فاصلة مع تركيا، استفتاءات تعطي اكثر من تسعين في المئة للحاكم... ان الذي خطط لتطبيق هذه المفاهيم في العراق ليس صدام حسين بل الموظفة البريطانية غيرترود بيل في العشرينات من القرن الماضي. وغيرترود بيل هذه لم تكن سوى سكرتيرة للشؤون الشرقية لدى الحاكم البريطاني في بغداد. وقامت غداة الحرب العالمية الاولى التي وضعت أوزارها العام 1918 بالتخطيط لاقامة دولة العراق الحديث التي تشكلت من ثلاث ولايات كانت تابعة للسلطنة العثمانية هي الموصل وبغداد والبصرة. وفي العام 1920 اعطت عصبة الاممبريطانيا حق الانتداب على هذه الدولة الحديثة في نشأتها والعريقة في تاريخها العظيم. وجاء هذا الانتداب بمثابة تسوية بين الحكام البريطانيين الذين كانوا من الهند المستعمرة البريطانية يعملون على توسيع الامبراطورية البريطانية وبين الذين كانوا في لندن يريدون صيغة جديدة غير الاستعمار المباشر لأنهم وعدوا العرب بالاستقلال لاقناعهم بالتمرد على السلطنة العثمانية عدوة بريطانيا خلال الحرب العالمية الاولى. وكتبت غيرترود بيل رسالة الى والدها في الرابع من كانون الاول ديسمبر العام 1921 تقول فيها: "امضيت قبل الظهر في مكتبي ارسم حدود الصحراء جنوبالعراق"، في اشارة الى رسم الحدود مع المملكة العربية السعودية بشكل خاص. وفي رسالة أخرى تقول بأنها "اقسمت على عدم التورط مجدداً في اقامة مملكة ... لأن الأمر مثير فعلا للاعصاب". في البنتاغون يقرأون ما كتبته هذه البريطانية بشغف. أما في العراق فإن مجرد ذكر اسمها يعني الكلام عن مرحلة استعمارية بغيضة. اما لماذا عاد الكلام عنها اليوم فلسببين : اولاً بسبب الحرب التي تشنها الولاياتالمتحدةوبريطانيا على العراق، وثانيا بعدما نشرت جامعة نيوكاسل في انكلترا رسائلها وصورها وكل ما يتعلق بها على موقع على الانترنت. في بغداد تحولت الانسة بيل الى "السيدة خاتون" الذائعة الصيت والمتنفذة القادرة، في الوقت نفسه، على التعبير عن إزدراء كامل ببلاد ما بين النهرين "المتخلفة"، وعلى التباهي بأنها تعمل على اقامة دولة حديثة في العراق. و"السيدة خاتون" تخرجت من جامعة اوكسفورد وهي تعشق الاثار والحضارات الشرقية. وكانت الامرأة الوحيدة التي اختارها مكتب الاستخبارات البريطانية الخاص بالعالم العربي في القاهرة حيث عملت الى جانب تي. اي لورنس البريطاني الذي اصبح لاحقا "لورانس العرب" والذي شارك في الثورة العربية ضد العثمانيين. وهي كانت ايضا المرأة الوحيدة بين 39 رجلا اختارهم وزير المستعمرات ونستون تشرشل للمشاركة في مؤتمر في القاهرة العام 1921 حول مستقبل بلاد ما بين النهرين. وهي ايضاً التي أصرت على تنصيب الامير فيصل ابن الشريف حسين ملكاً على العراق بعدما كان طرده الفرنسيون من سورية. وفي الاستفتاء الذي نظمته بيل او "السيدة خاتون" بحسب التسمية العراقية لها حصل الامير فيصل على تأييد 96 في المئة من الشعب العراقي لتنصيبه ملكاً، وهي ارقام لم ينافسه فيها سوى صدام حسين بعد عشرات السنين. وكانت "السيدة خاتون" تجد لذة كبيرة في مرافقة القوات البريطانية والتفرج على المقاتلات البريطانية، وهي تقصف مواقع الاكراد في شمال العراق لقمع تمردهم. وعندما قامت ثورة الشيعة في جنوبالعراق التي اودت بحياة ثمانية الاف بريطاني اقتنعت "السيدة خاتون" بأن الادارة البريطانية المباشرة ستكون مكلفة ومن الافضل السعي الى اقامة سلطة عراقية تعتمد على عناصر من النخبة في البلاد. وهذا ما حصل. وتبين ان الشيعة الذين كانوا رأس حربة الثورة العراقية على الانتداب البريطاني، لم يحصلوا على اي مكسب سياسي، فقد فضل البريطانيون الاعتماد على الموظفين الذين كانوا قائمين في العهد العثماني، وهم بالطبع من السنة، لاقامة الدولة الجديدة الناشئة. وتعتبر بيل ان "السلطة يجب ان تكون في أيدي السنة على رغم قلة عددهم لأن تسلم الشيعة يعني قيام سلطة دينية". وماتت "السيدة خاتون" في تموز يوليو من العام 1926 اثر تناولها جرعة زائدة من الادوية المنومة وقد دفنت في بغداد.