اجمع المعلقون تقريباً بعد زيارة رئيس الحكومة العراقية الموقتة اياد علاوي للولايات المتحدة على ان هذه الزيارة وفحواها والخطاب الذي ألقاه امام الكونغرس جاءت ضمن الحملة الانتخابية للرئيس جورج بوش، وكان الهدف منها إظهار أن الأمور في العراق تسير على ما يرام وضمن المخطط المرسوم. ولعل أهم ما أراد خطاب علاوي الذي تردد في وسائل الاعلام الأميركية انه كُتب في واشنطن على ايدي خبراء في حملة بوش مما استدعى نفياً رسمياً التأكيد عليه نقطتان: الأولى، ان المقاومة محصورة في بعض المحافظات وكأن الأمن مستتب في اكثريتها. والثانية، الحديث عن الانتخابات كدليل على تقدم الديموقراطية في العراق. وكانت هاتان النقطتان نفسهما هما ما ركزت عليه أخيراً خطب الرئيس الأميركي ليعبر عن رضاه عن مجرى الأمور في العراق. ويبدو ان رئيس الحكومة العراقية حسم امره بتقديم ما هو مطلوب منه لدعم حملة بوش الانتخابية. فالرسالة كانت واضحة قبل ذهابه الى واشنطن، عندما اعلنت وزارة الصحة في بغداد انها لم تعد مسؤولة عن الإعلان عن عدد الضحايا العراقيين. وهذا القرار، إذا ما أرفق بالغياب التام لأي تصريح عن الحكومة يحدد حجم الخسائر خلال كل هذه الفترة، اضافة الى المجازر التي ترتكب كل يوم، يكمل عناصر الصورة. اذ يبدو ان حكومة علاوي حسمت امرها على مساعدة قوات الاحتلال في إعادة احتلال العراق بعدما أفلت من ايديها، وطالما، كما هو متوقع، أن الخسائر بين العراقيين ستكون عالية فإن الإعلان عن عدد الضحايا يجب ان يصبح سراً من اسرار الدولة. ما جاء في خطاب علاوي من أن الأمور جيدة في العراق باستثناء أربع محافظات من 15، ليس دقيقاً، اذ ان الوقائع تشير الى ان العراق بأكمله خرج عن السيطرة، وأصبح من الضروري إعادة احتلاله. صحيفة "نيويورك تايمز" لم تتأخر في الرد على هذه الادعاءات، اذ كتب مراسلها جيمس جلانس في 29 ايلول سبتمبر الماضي مقالاً تضمن وصفاً دقيقاً للأوضاع الأمنية في العراق، نقلاً عن تقرير اعدته احدى الشركات الخاصة الأمنية التي تعمل في هذا البلد والتي تستند الى تقارير عسكرية امنية رسمية صادرة عن قوات الاحتلال نفسها. وجاء في التقرير انه في الثلاثين يوماً الأخيرة وقع اكثر من 2300 هجوم استهدفت القوات المسلحة الموجودة في العراق، وغطت تقريباً كافة الأراضي العراقية باستثناء المناطق الكردية، وشملت كل المحافظات من نينوى وصلاح الدين في الشمال الشرقي الى ديالا وبابل في الوسط حتى البصرة في الجنوب. ونقل الكاتب عن آدم كولنز المتخصص في الشؤون الأمنية قوله: "لو نظرت الى خريطة انتشار ساحة العمليات ستجد انها ليست قلة من المحافظات كما يشاع بل كل الأراضي العراقية". وأضاف كولنز ان معدل العمليات يومياً وصل الى 80 عملية، وبناء للتقرير الأمني نفسه فإن العمليات توزعت في الفترة نفسها كالآتي: 238 عملية في محافظة نينوى و325 عملية في صلاح الدين و332 في الأنبار. وفي وسط العراق كانت نسبة العمليات 123 في ديالا و76 في بابل و13 في واسط، ليستنتج التقرير ان أي محافظة لم تنج من الهجمات. وفي الخامس من الشهر الجاري نقلت وكالة "أسوشيتدبرس" عن مراسلها جيم كران الذي تحدث عن "مواجهة الولاياتالمتحدة لانتفاضة معقدة في العراق". وبدأ المراسل رسالته بأن "الولاياتالمتحدة تواجه في العراق اعقد حرب عصابات في التاريخ، فالمئة وأربعون ألف جندي اميركي المدربون على الحرب الكلاسيكية فشلوا في فهم هذه الحرب التي يشنها اكثر من تنظيم وبأهداف متعددة ولا رأس قيادياً لها". وتنقل المقالة عن بروس هوفمان الخبير من مؤسسة "راند" المتخصصة في شؤون الدفاع والذي عين من قبل إدارة بوش مستشاراً للحملة الأميركية قوله: "إنه اكبر تحد من اي ثورة اخرى واجهتها الولاياتالمتحدة". وتستخلص المقالة ان "تعدد المنظمات والأهداف وغياب معالم قيادة واحدة او قاعدة ارتكاز واحدة يصعب المهمة بل يجعلها شبه مستحيلة للقوات الأميركية، بخاصة ان هذه القوى تذوب بين المدنيين". ويرى هوفمان وبعض الخبراء المستقلين، ان الانتفاضة تتوسع وتحقق إنجازات، لأنها مع استمرار القتل والقتل المضاد تزيد الكراهية للقوات الأميركية من قبل العراقيين، وتحقق نقاطاً بمنعها عملية الإعمار التي كانت الولاياتالمتحدة تمنن العراقيين بها. خبير آخر من مؤسسة راند هو جيمس دوينز يقول: "اذا لم نستطع ان نؤمن الأمن للناس سيتحولون ضدنا، واذا خسرنا نحن او الحكومة الأميركية هذه المعركة فبالتأكيد نكون خسرنا الحرب". والحل الوحيد بنظر الخبراء الأميركيين وما أعلن على ألسنة المسؤولين العراقيين اخيراً، يؤكد انهم يراهنون على القوات العراقية المدعومة من القوات الأميركية للقيام بالمهمة على الشكل الآتي: تنفذ القوات الأميركية عمليات الاقتحام الأساسية ثم تسلم المواقع للقوات العراقية. المراسلون الأميركيون في العراق، يشككون بحجم المهمة الملقاة على عاتق القوات العراقية وعلى قدرتها على الصمود بمفردها في ساحة المعركة. المهم في كل ما يجرى وسيجرى ان الطرفين الأميركي والعراقي حسما امرهما لجهة اخضاع العراق بأي ثمن من دون اي اعتبارات انسانية او حتى مترتبات قانونية او سياسية. ورصد الوقائع اليومية اثبت ان القوات الأميركية، وبموافقة الحكومة العراقية الموقتة، اتخذت قراراً بقصف مواقع ومنازل عشوائية في الفلوجة كل 24 ساعة لإيقاع خسائر بين السكان من أجل إجبارهم على التخلي عن خيار المقاومة، في الوقت نفسه الذي تقدم لهم الحكومة الجزرة من خلال مفاوضات تعد بالإعمار والتعويض. هذه الجريمة اليومية التي سيثبت التاريخ انها جريمة حرب ابشع من جريمة ابو غريب، لم تتحملها بعض الجهات في الجيش الأميركي التي سربت المعلومات على طريقتها للصحف والإعلام كما سربت من قبل معلومات عن ابو غريب. ونقلت صحيفة "اندبندنت" البريطانية عن مراسلها في واشنطن 6 تشرين الأول/ اكتوبر، ان فيلم فيديو عرض على شاشة تلفزيون القناة الرابعة الإخبارية ينقل صوراً حية سجلت في احدى الطائرات الحربية F16 يتم فيها تبادل التعليمات بين الطيار وقيادته الأرضية، حيث يطلب الطيار التوجيهات عند مشاهدته لمجموعة من سكان الفلوجة في مرماه، فيأتي الأمر ب"إخراجهم" بحسب التعبير العسكري المتبع عادة، بمعنى قصفهم وقتلهم. ويثبت الشريط ان هؤلاء كانوا من المدنيين العزل. ويعلق مراسل الصحيفة على ذلك بالقول: "ليس المهم التحقيق الذي سيجريه البنتاغون لمعرفة كيفية تسرب هذا الشريط. المهم ان جريمة حرب ارتكبت". هذه الجريمة المصورة لا يمكن ان تخفي ما هو امام اعيننا من جرائم مصورة كل يوم لأطفال ونساء يقتلون تحت القصف بحجة ضرب مواقع الأسطورة المسماة "ابو مصعب الزرقاوي". وما يجري اليوم في العراق احتلال جديد لهذا البلد. والسيناريو نفسه شاهدناه من قبل في إعادة احتلال الضفة الغربية والمدن الفلسطينية التي ارتكبت فيها المجازر بمباركة اميركية. * كاتب لبناني.