على خشبة المسرح الأكاديمي للشباب في مدينة كييف في أوكرانيا قدم المخرج العراقي جواد الأسدي مسرحيته "نساء في الحرب" في خطوة غير مسبوقة، كرس فيها وللمرة الأولى في "ريبتوار" المسرح الأوكراني ثقافة آتية من العراق، في مدينة يتزاحم عليها عدد غير قليل من الفنانين الأوروبيين الذين يعبرون عن شغفهم بأوكرانيا من خلال برامجهم وعروضهم الكلاسيكية والمعاصرة على صعيد الاوبرا، والعروض الموسيقية والمعارض الفنية والعروض المسرحية المستوحاة من نصوص ذات قيمة انسانية رائعة مثل "هاملت" للمخرج الأوكراني ستانسلاف مايسييف و"الخال فانيا" للمخرج التجريبي فاتيا ملاخف. وكما عودنا الأسدي في أعماله اللافتة مثل "مس جوليا" في مدينة غوتنبرغ في السويد و"رأس المملوك جابر" في مدينة فالنسيا في اسبانيا و"نساء في الحرب" في مدينة روما، ها هو يخوض تجربته الاخراجية الجديدة على خشبة المسرح الأكاديمي ومع ممثلين أوكرانيين وباللغة الأوكرانية، ولكن هذه المرة عبر نص مسرحي ذي نكهة عراقية يكشف فيها ويعري الواقع السياسي والاجتماعي العراقي إبان التصفيات الجسدية والتهجير الجبري الذي مارسته السلطة البعثية في العراق، وما تعرّض له العراقيون من مخاوف وآلام ودفن جماعي، وعلى وجه الخصوص ما تعرضت له المرأة كأم وزوجة وحبيبة وأخت. يختزل العرض الذي قدّمه الأسدي وبكثافة عالية ما عانته اللاجئات العراقيات اللواتي وجدن أنفسهن مرميات في بلدان بعيدة كل البعد عن هواجسهن الانسانية وتقاليدهن وعن الاتصال الاجتماعي وما تربين عليه من عادات وثقافة عائلية حميمة وقوية ومركبة. ربما من المناسب هنا أن نتطرق الى أهمية ان يتقاسم الأسدي نصه المسرحي وبروفاته في "نساء في الحرب" مع ثقافة أو بيئة ذات مراجع وأصول لغوية مختلفة. وقد اكتسبت التدريبات التي استمرت قرابة شهرين معنى ثقافياً وفنياً مركباً، بين مخرج عراقي يملك طريقته وأسلوب عمله المسرحي وممثلات أوكرانيات محترفات يدربن أدواتهن وأذواقهن على تلقي اشارات وعلامات وسياقات حركية وإيقاعات على نحو لم يألفنه من قبل. ولعل هذا ما أضفى على البروفات الكثير من الغواية والمغامرة والايقاع المشتعل والمتوثب الذي جعل الأداء منفلتاً ولكن مع الحفاظ على روح النص مع فتح الأبواب على الارتجال الحر، لتتحول البروفات شيئاً فشيئاً بعد المقاربات في الفهم بين المخرج والممثلين الى ساحة حارة، ارادها الأسدي أن تكون حقيقية يوصل فيها الممثلات الى اداء فطري. وكان الأسدي يقول للممثلات دائماً: "تخلين عن التمثيل الميكانيكي جانباً، انسين المسرح، وكنّ كما أنتن، ومثلن في شكل حقيقي". أراد الأسدي من الممثلات ان يتقمصن الأدوار حتى الذوبان، لأن النساء المكتوبات في النص هنّ نساء حقيقيات، ولهذا يجب أن يكون الأداء بعيداً من عرض العضلات المسرحية! بعد شهر ونصف الشهر، استطاع جواد الأسدي ان يلغي المسافات بين شخصيات النص والخصائص النفسية والجسدية للممثلات، حتى تحوّل التمثيل الى أمر حقيقي ملموس، موجع، ومعذب، لكنه عذب ولذيذ! "نساء في الحرب" كما كتبها الأسدي وأخرجها تنتمي الى رغبة أصيلة في الدفاع عن المرأة المظلومة في مجتمعات عربية تسحق حقوقهن وتهمّش طاقاتهن. بهذا المعنى أراد العرض المسرحي أن يطرح موضوع اللجوء الانساني في دول أوروبية تستدرج اللاجئين وتضعهم في وهم توفير الظروف الآمنة والمستقبل المضيء، لتدمر في الوقت نفسه إرث اللاجيئن وموروثهم ولغاتهم ثم تمحي آثارهم ليتحولوا الى ماركات أوروبية بلا أصول ولا منبت ولا رحم. إن عرض "نساء في الحرب" الذي قدم في صالة تتسع لمئة متفرج ألقت الضوء بقوة على ظلم السلطات الفاشية. الممثلات لينا خيشنايا بدور أمينة، وريما زيوبنا بدور مريم، وإيرما كريكورفنا بدور ريحانة، قدمن العرض بشفافية غير معهودة، حصدن فيها اعجاب الممثلين الأوكرانيين الذين اعتبروا أداءهن جديداً ومتفرداً. وفعلاً تمكنت الممثلات من المساس بالشخصية العراقية الممزقة، المحشورة في صالة رثة في ألمانيا بحثاً عن الأمان الكاذب، وبانتظار موافقة المحققين التي طالت، الأمر الذي فجّر فيهن الكثير من السخط والنبش في يومياتهن وذكرياتهن القديمة. الريح قاسية، الصالة باردة، أسرّة حديد قديمة، مشاعل ترسل ضوءاً خافتاً، والعازفة تانيا كوزينا تضرب بأصابعها على الأوتار برهافة عالية معلنة بداية العرض المسرحي الذي يقذف الممثلات الى جحيم صقيعي، بارد يخرق العظام. في تلك الصالة تجرى الأحداث وتتقاسم اللاجئات العراقيات يومياتهن وحنينهن الجارف الى بلدانهن التي صارت نائية وبعيدة. يتصادمن وينجرفن نحو أداء منفلت يكشف درجات عالية من اخلاقياتهن وثقافاتهن المتباينة احياناً، والمتناقضة بقوة. مريم المحجبة المتديِّنة تحمل آلامها ومرارتها، وتتقاطع مع ريحانة ذات النزعات المتفلتة في سماع الموسيقى والرقص الهستيري. من جهة أخرى تقوم أمينة التي تلعب دور الممثلة بالدور الحيادي والأمومي منتهزة الفرصة في بعض اللحظات لتعبر عن شغفها بالتمثيل، مستعيدة بعض أدوارها القديمة وسيرتها الشخصية في بعض الأحيان. وربما من الأهمية الحديث عن النزعة الاخراجية المتجددة لدى جواد الأسدي في كسر مبنى نصه وعدم التركيز على المعطى السردي في عمله خلال البروفات. وهو دفع النص والممثلة الى مساحة الرقص عبر اختياره مدربة الرقص الروسية لودميلا بونوفييج التي صممت أربع رقصات تعبيرية غاية في الرهافة والعنف، مستفيدة من موسيقى العراقي رعد خلف الذي فجر فيها الايقاع والجملة الموسيقية الشرقية. وما يجدر ذكره ان مسرحية الأسدي أدرجت في "ريبتوار" المسرح الأكاديمي للشباب في مدينة كييف، حيث سيتم عرض "نساء في الحرب" لأكثر من خمس الى ست سنوات مقبلة كجزء من تقاليد الثقافة الأوكرانية والأوروبية التي تحافظ على النتاج الإبداعي وعلى الثقافة الانسانية. * يشارك جواد الأسدي في المهرجان المسرحي الأوروبي في مدينة كييف مستعيداً إعداد رواية بولغاكوف الشهيرة "المعلم ومارغريتا". وكان مدير المهرجان، الروسي الأصل، رشح الأسدي ليقدم عرضه باللغة العربية، مشدداً على أهمية أن تقدم رائعة بولغاكوف بكل لغات العالم، حيث سيشارك في المهرجان بريطانيا وروسيا وهولندا ودول غربية أخرى. وأول شهر أيار مايو هو الموعد الرسمي لانطلاق المهرجان الذي سيعيد صورة بولغاكوف الأوكراني الأصل الى صدارة الحدث الثقافي السنوي.