مرة أخرى تدور الأرض دورتها الكاملة حول الشمس وتدور معها أجسادنا التي تعبت من الركض وأرواحنا التي بليت من التكرار. ومرة أخرى نكتشف على حين غرَّة أننا نقترب أكثر فأكثر من الشيخوخة وأن المسافة الفاصلة بين الطفولة والكهولة لم تكن سوى ميدان للرقص على جثث السنوات وأنقاضها المتداعية. حين كنا فتياناً بعد كنا ننظر الى آبائنا وأقربائنا الواقفين في منتصف العمر ولا نصدِّق أنهم استطاعوا أن ينفقوا كل تلك الأعمار المديدة التي قطعوها من دون أن يفقدوا شهيتهم لمواصلة الحياة. كنا نسأل أنفسنا دائماً السؤال الذي سبقنا اليه شاعر جاهلي معروف ونردد في سرنا: ألم يسأم هؤلاء تكاليف الحياة؟ وبماذا يتشبثون بعد وهم ينحنون تحت قوس الزمن ويضغضغون فاكهة الخيبة واليأس. كنا نسأل تلك الأسئلة ونظن أن أمامنا نحن اليافعين سهولاً لا يمكن قطعها من الأوقات وأننا نبحر فوق سفينة الزمن البطيئة التي لن ترسو ذات يوم على بر الشيخوخة المتهدم. يتراءى لنا الآن أن الزمن الحقيقي الوحيد الذي امتلكناه بعمق هو زمن الطفولة. انه الزمن الذي يتطاول بلا انتهاء، ولكن الى الخلف لا الى الأمام. تبدو الطفولة وراءنا وكأنها غابة شاسعة من الظلال والألوان والأصوات والمياه. ربما هي كذلك لأننا لا نستطيع العودة اليها أو استعادتها بالروح نفسها التي كانت لها يومذاك، أو لأنها متصلة بحياة البدايات وظلمات الرحم المفتوحة على أزلية الخلق. تتحول الطفولة الى ملاذ وحيد لأنها اللحظة الأبعد عن الموت والأقرب الى رذاذ الطمأنينة البكر وغيومها المترامية. انها النواة الوحيدة للحياة التي تبدو شديدة الركود والبطء في سنواتها الأولى ثم تتسارع بعد ذلك في شكل دائم الإطراد. لهذا على الأرجح يشعر الأدباء والفنانون انهم يقيمون أبداً داخل طفولاتهم التي لا تذبل وأن الزمن الذي يأتي بعد ذلك ليس سوى القشرة التي تغلف النواة وتعصمها من التآكل. على أن المفارقة الأكثر مأسوية التي يعيشها البشر تتمثل في كون أجسادهم تتقدم باتجاه الشيخوخة، فيما أرواحهم تتطلع دائماً باتجاه الطفولة والصبا الأول. ليس ثمة من تناسب بين عمر الجسد وعمر الروح إلا عند أولئك الذين يرتضون بكنز "القناعة" أو يتصالحون مع أقدارهم ويقفلون في شكل كامل النوافذ التي تتسرب من خلالها رياح القلق والأسئلة. إن المأساة تكمن في قاع الحقيقة لا على سطح الوجود الظاهر. وكلما حفرنا أكثر في معنى وجودنا اقتربنا من التراجيديا المتجددة التي تنتظرنا عند كل منعطف. والمشكلة أن الجسد، حتى وهو في ذروة تألقه، قليل على الروح. فكيف يكون الأمر إذا ما استبد به العجز وأثخنته الأيام بالطعنات. إن المرء يتمنى لو يملك ذراعين طويلين بما يفي لاحتضان جمال العالم ومفاتن كائناته، ولو يملك عيني زرقاء اليمامة ليرى بواسطتهما الأسرار الأكثر غموضاً على الأرض، ولو يملك سمع الخلد ورهافة إنصاته ليسمع "ينابيع الأرض وهي تصلي" على حد الشاعر الايطالي بريكل باتوشي. فكيف هي الحال مع جسد يميل الى الذبول ويترنح تحت وطأة الكهولة والمرض والخيبات المتتالية. وعلى رغم كل شيء، فالبشرية تحتفل بالعام الجديد كما لو أنها تشيح بنظرها عن الكوارث التي حملها العام الذي انصرم وتعلق آمالها على ما يخبئه المستقبل من كنوز الرجاء المواراة في غياهب الظنون. نحتفل جميعاً في الليلة الفاصلة بين عامين ولا نعلم ما إذا كان ذلك الصخب الهائل الذي تركناه خلفنا هو بسبب الابتهاج أم الخوف. ذلك أن الخائف لا يجد ما يداري به خوفه على طريق الوحشة سوى الغناء الذي يطرد بواسطته أشباح الظلمات. إن هذا الضجيج المتعاظم الذي نثيره من حولنا على مفاصل السنين وهذا الاحتفال الكرنفالي الذي نقيمه رأس كل عام يمر ليس سوى محاولة رمزية لتجاوز الخوف الناجم عن انقضاء السنين. ربما نهرب تلك اللحظات من الركون الى العزلة والتأمل في ما ينتظرنا على منعطف الأيام والمصائر واضعين أنفسنا في مهب الصخب والضوضاء الملائمين للنسيان. ولأننا أرامل أعمارنا المنصرمة فنحن لا نجد ما نفعله سوى تشييع السنوات التي انقضت الى غير رجعة وانتظار ما تخبئه لنا السنوات المقبلة من مفاجآت ووعود!