إجراءات تركية جديدة لتسهيل عودة اللاجئين السوريين    لبنان تقدم شكوى لمجلس الأمن احتجاجا على الخروقات الإسرائيلية    نائب أمير تبوك يطلق حملة نثر البذور في مراعي المنطقة    منتدى المدينة للاستثمار.. يراهن على المشروعات الكبرى    انطلاق منافسات سباقات الخيل في ميدان الفروسية بالدمام الجمعة المقبل    عبد العزيز بن سعد يشهد الحفل السنوي لجمعية الأطفال ذوي الإعاقة بحائل 2024    المملكة تُطلق الحوافز المعيارية لتعزيز الصناعة واستقطاب الاستثمارات    مدرب البحرين مازحاً: تمنياتي للعراق التوفيق في كأس العالم وليس غداً    سفير المملكة لدى أوكرانيا يقدّم أوراق اعتماده للرئيس فولوديمير زيلينسكي    خطة تقسيم غزة تعود إلى الواجهة    225 مليون مستفيد بجمعية هدية الحاج والمعتمر    مسفر بن شيخة المحاميد في ذمة الله    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    فرصة لهطول الأمطار على الرياض القصيم الحدود الشمالية والشرقية    من رواد الشعر الشعبي في جازان.. عبدالله السلامي    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    "الوعلان للتجارة" تحتفل بإطلاق "لوتس إمييا" 2025 كهربائية بقدرات فائقة        "البروتون" ينقذ أدمغة الأطفال.. دقة تستهدف الورم فقط    الترفيه تعلن عن النزالات الكبرى في فعالية UFC ضمن «موسم الرياض»    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    جسر النعمان في خميس مشيط بلا وسائل سلامة    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    عمان تواجه قطر.. والإمارات تصطدم بالكويت    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    الصقارة.. من الهواية إلى التجارة    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    قبل عطلات رأس السنة.. أسعار الحديد ترتفع    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    إعداد خريجي الثانوية للمرحلة الجامعية    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    محمد بن سلمان... القائد الملهم    البرازيلي «فونسيكا» يتوج بلقب بطولة الجيل القادم للتنس 2024    26 مستوطنة إسرائيلية جديدة في عام 2024    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    استدامة الحياة الفطرية    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    سعود بن بندر يلتقي مجلس «خيرية عنك»    خادم الحرمين يرعى منتدى الرياض الدولي الإنساني    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    لتعزيز الروابط النيابية وتوعية الجمهور.. تدشين الموقع الالكتروني لجمعية النواب العموم العرب    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا يبقى من نظرية نديم البيطار بعد احتلال العراق ؟
نشر في الحياة يوم 04 - 01 - 2004

لا يمكن فهم نظرية نديم البيطار في الوحدة العربية، بمعزل عن القطيعة التي أقامتها مع ما يمكننا تسميته بالنظرية القومية "الثقافوية" التقليدية في الفكر القومي العربي في القرن العشرين. ولم تتكون قطيعة البيطار مع النظرية "الثقافوية" دفعة واحدة، لكن تطورها أدى إلى إنتاج نظرية مقابلة لها، تقطع جذرياً معها، ويمكن وصفها بالنظرية الدولتية التي تتكثف ترسيمتها بأن الدولة هي سبب الأمة مقابل النظرية "الثقافوية" التقليدية التي تتكثف ترسيمتها بأن الدولة الواحدة هي نتاج طبيعي وحتمي لاكتمال عناصر الأمة في الأمة العربية.
لا يعني هذا التمييز أن البيطار ينكر دور تلك العناصر في تكوين الأمة بقدر ما يعني أن الأمة التي تتميز بتلك العناصر لا تتوحد إلا بحكم عاملٍ أساسي حاسم هو عامل الدولة، كما لا يعني في المقابل أن النظرية "الثقافوية" تنكر عامل الدولة بقدر ما يعني أنها تعتبره عنصراً تالياً على وحدة الأمة المكتملة العناصر تكوينياً. ومن هنا تربط نظرية البيطار ربطاً عضوياً، ما بين الدولة والأمة في صيغة الدولة - الأمة، بقدر ما كانت النظرية الثقافوية التقليدية تقول بالفصل ما بين الدولة والأمة، وأن الدولة شيء والأمة شيء آخر.
النظرية الثقافوية هنا هي بطبيعة الحال نظرية في الأمة أكثر مما هي نظرية في الدولة القومية، ويترتب عليها أن الأمة العربية هي أمة واحدة حتى وإن لم تتمكن من بناء دولتها القومية المركزية أو الاتحادية، فالأمة شيء والدولة شيء آخر. وغياب الدولة لا يؤثر في شيء على اكتمال الأمة، بصفتها أمة مكتملة العناصر قومياً، يحق لها ويجب عليها أن تعيش في دولة واحدة. أما في نظرية البيطار فالدولة هي العنصر الأساسي الذي يعلو على سائر العناصر الأخرى المكوّنة أو المتكونة إلى ما يرتفع إلى مستوى العنصر التكويني الحاسم. والبيطار قاطع في ذلك.
إذا كان ساطع الحصري أبرز ممثل مكتمل للنظرية الثقافوية التي تفصل ما بين مفهومي الدولة والأمة فإن نديم البيطار هو أبرز ممثل مكتمل للنظرية "الدولتية"، بل يمكن القول إن البيطار هو الممثل المنظومي الوحيد لها في الفكر القومي العربي في القرن العشرين، في شكل الربط ما بين الدولة والأمة أو مفهوم الدولة - الأمة. ولقد قامت نظرية الحصري كما النظرية الثقافوية عموماً على منطلقاتٍ تاريخانية أساسية تنظر إلى التاريخ بوصفه تاريخ أمم تمكن قسم منها من بناء دولة واحدة له في حين لم يتمكن قسم آخر. وتنتمي الأمة العربية هنا إلى هذا القسم المجزأ.
إن نظرية الحصري في الوحدة العربية كنتاج طبيعي وحتمي لاكتمال عناصر الأمة، وفي مقدمتها عنصر اللغة يضيف الحصري عنصر التاريخ ولكن مكانة هذا العنصر تبعية لعنصر اللغة هي نظرية تاريخانية بالمعنى العام، أي بمعنى أنها تتأسس على نظرية عامة في تكون ونشوء واكتمال الأمم، وهذه النظرية لم تغفل العناصر الأخرى، لكنها في إطار نظريتها العامة للأمة ركزت في شكل خاص على عنصر اللغة، من حيث أن الأمة لا تقوم إلا بأساسه، ومن هنا كان وصفها بنظرية الأمة - اللغة، بينما حاول البيطار عبر جهدٍ هائل أن يؤسس نظريته في الدولة القومية أو الدولة - الأمة، من حيث أن الأمة لا تقوم إلا بأساس الدولة على أساس نظرية تاريخانية بالمعنى الدقيق للكلمة. والبيطار هنا هو الممثل الأكمل لهذه التاريخانية كما تعرفها الفلسفة، والتي تختلف بطبيعة الحال عن التاريخية كما يعرفها المؤرخ. منهج التاريخاني هو غير منهج المؤرخ، على رغم أنهما ينطلقان من مواد واحدة.
يمكننا أن نميز في تاريخانية البيطار بين مرحلتين نظريتين أساسيتين، هما ما يمكن تسميتها بمرحلة التاريخانية القومية الروحية أو الانقلابية بالمعنى الذي يعطيه لمصطلح الانقلابية، ومرحلة التاريخانية القومية السوسيولوجية. يرمز كتابة "الايديولوجيا الانقلابية" 1964 إلى المرحلة الأولى بقدر ما يرمز كتابه "في حدود الهوية القومية - نقد عام - 1982" إلى مرحلته الثانية. ليس تطور نظرية البيطار التاريخانية في الدولة القومية من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية تطوراً بسيطاً بل تطوراً معقداً، أعادت فيه تلك النظرية في مرحلتها الثانية بناء المرحلة الأولى في إطار مفهوم تاريخاني سوسيولوجي متسق.
إذا ما شئنا أن نكثف التاريخانية القومية الروحية في مرحلة البيطار الأولى، فإننا لن نستطيع أن نجد ما يعبر عنها على مستوى نظرية الدولة سوى نظرية الدولة - الأمة التوتاليتارية التي تجد أكمل مراجعها في النماذج النازية والفاشية والستالينية. ما نقصده بالتاريخانية الروحية هنا أن البيطار كان يفهم في مرحلتها الايديولوجيا الانقلابية بصفتها نقلاً للفلسفة الاجتماعية أو فلسفة التاريخ القومي كما فهمها من الحيز النظري إلى الحيّز العملي. الانقلابية هنا هي مضمون هذا التحول. فالبيطار في هذه المرحلة معني بالكشف عن نظرية التاريخ القومي في ضوء الفلسفة الاجتماعية أو فلسفة التاريخ، ويعرف في شكل مكتمل أن هذا هو من عمل فيلسوف التاريخ الذي تقوده الفلسفة تلقائياً إلى الشك والتساؤل والحذر والعقلانية، لكنه معني بتكوين نخبة قومية انقلابية تحول تلك الفلسفة إلى عمل انقلابي جذري كامل الأركان، أي تنقل التفسير إلى التغيير، وهذه النخبة الانقلابية المصطفاة تعتنق تلك الفلسفة في عملها الانقلابي للتطويح الجذري بالواقع التقليدي القائم اعتناقاً إيمانياً، أو اعتناقاً يقع في إطار الأديان البديلة عن "الأديان الغيبية". ولهذا يكثر البيطار من تكرار كلمات "الانقلابية الروحية" و"النفس الانقلابية" و"تبني المصير الروحي الجديد" و"إقامة حياة جديدة ذات شخصية عقائدية روحية و"حرارة الإيمان الجديد" و"تجديد الإنسان العربي تجديداً روحياً ونفسياً" وتحقيق "المعنى الروحي العقائدي المحض".
يتحدد هدف البيطار في تلك المرحلة ب"إنشاء نخبة انقلابية من الشباب العربي، تستطيع أن تشرف على الحركة العربية فتبني المصير الروحي الجديد" مقتدية بقائدٍ يكون على نموذج فوذد ارتبط بستالين ودوتشي موسوليني وفوهرر هتلر في تمثيل القيادة المشخصنة للأمة. إذ أن "جمهرة الناس وأكثريتهم في كل مجتمع من المجتمعات لهي كائنات جامدة كالدمى وغير خلاقة، تكتفي باتباع العادات الجارية، والتقاليد السائدة، فهي ذات نفسية تقليدية تجاري ما تجده، وما يتوافر لها من نظم -الإيديولوجيا الانقلابية- ص26". ومن نافل القول إن انقلابية البيطار ليس لها علاقة هنا من قريب أو بعيد بالانقلابية العسكرية، بل يقصد بها شيئاً يتخطى مفهوم الثورية.
نلاحظ هنا أنه تشبث بمفهوم "الانقلابية" أي في حدود عام 1964 في الوقت الذي كان البعث يستبدله بمفهومه "الثورية"، فانقلابية البيطار هي الانقلاب التوتاليتاري الجذري الكامل بالمجتمع من حالته الراهنة إلى حالة جديدة جذرياً. تكون الايديولوجيا الانقلابية المؤمنة بفلسفة التاريخ القومي في مراحله الانتقالية الكبرى نقيضه حرفياً وعلى طول الخط لكل عنصر من عناصر منظومة الايديولوجيا الليبرالية، وفي هذه النظرية القومية الدولتية التوتاليتارية العاتية للدولة القومية نلمح آثار تكون نديم البيطار الشاب في أواسط الأربعينات حين التفت حوله نخبة من الشباب في كلية حلب الأميركية، إذ كان البيطار وهو يخطو أولى خطواته النظرية المعتبرة يومئذ، ميالاً إلى تحدي الفكر القومي العربي في زمنه، وإلى اعتبار أن وحدة الأصل التي تقوم على وحدة العرق والدم هي من أولى مقومات الأمة. البيطار الشاب في هذه الأولوية "المفزعة" المنفعلة بالفكر النازي يعرف جيداً أنه ليس هناك أساس علمي لوحدة العرق أو الرسّ أو الدم لدى أية أمة، لكنه يريد منها توليد الشعور بوحدة الأصل، بما يزيد من تماسك الأمة.
في مرحلته النظرية الثانية والتي أطلقنا عليها مرحلة التاريخانية القومية السوسيولوجية، تضمحل إلى درجة الاندثار اللغة الروحية القومية، وتحل مكانها اللغة السوسيولوجية المشبعة بمعارف فلسفية وتاريخية وسياسية وقانونية وأنتروبولوجية متشابكة ومركبة، فلا ريب أن البيطار كان من أكثر منظري الفكر القومي العربي موسوعية. يضعف هنا في هذه المرحلة حضور التاريخاني المشبع بالنظريات التاريخانية الألمانية في شكل خاص لصالح حضور تاريخانية السوسيولوجي العميق. فالصلة بين السوسيولوجي والتاريخاني عميقة بدورها، إذ أن علم الاجتماع يمكن النظر إليه بصفته علماً تاريخانياً، من زاوية اكتشافه القوانين. لكن السوسيولوجيا تغدو هنا محدّدة الفهم التاريخاني العام لنظرية الأمة أو في شكل أدق لنظرية الدولة - الأمة.
ينجز البيطار في هذه المرحلة النظرية ثورة حقيقية في مفهوم الفكر القومي العربي للأمة في القرن العشرين. إن مفهومه سوسيولوجي يرى الهوية القومية هوية نسبية وتاريخية يحققها شعب ما من طريق تفاعله أو علاقته الديالكتيكية مع التاريخ، ولا يرثها من تركيب نفسي أو جوهر متأصل فيه. البيطار يقوم هنا في قطعه مع "المفهوم الميتافيزيقي" الذي يحدد شخصية الأمة بجواهرها أو تركيبها، بقطع مع تجليات هذا المفهوم في مرحلته النظرية الأولى خصوصاً، وفي مسار فهم الفكر القومي العربي للهوية القومية في النصف الأول من القرن العشرين عموماً. وفي هذا المفهوم السوسيولوجي يقترب البيطار كثيراً من الإنسية، ويرى أن جميع الأمم والقوميات تكشف أن الاختلافات والفروق الموجودة بين أفراد الأمة الواحدة هي أكبر وأكثر من متوسط الاختلافات والفروق الموجودة بينها وبين أمم أخرى" وفي حين كان في مرحلته النظرية الأولى يرى وحدة العرق ضرورية في تكوين الأمة لأسباب نفسية وليس علمية فإنه يصف العرقية في مرحلته الثانية ب"صفاقة فكرية" ويقول في شكلٍ قاطع: "العرق لا يفسر شيئاً أبداً" حدود الهوية القومية - ص215. وفي هذه المرحلة الثانية يقود إلى طرح سؤال عن مدى قناعته بأن الأمة العربية متكونة أم هي في طور التكون، والتي كانت مركز الرحى في الصراع ما بين الشيوعية العربية المسفْيتة وبين القوميين العرب؟ يسكت البيطار عن هذا السؤال الذي تقود إليه نظريته في مرحلتها الثانية، فيبقي السؤال معلقاً على المستوى العلمي، وهو المستوى الذي يمثل مركز اهتمامه منهجياً.
مفاهيم المرحلة الأولى تنزاح إلى مفاهيم جديدة يعاد بناؤها، فينزاح مفهوم النخبة الانقلابية في "الإيديولوجيا الانقلابية" إلى مفهوم الانتلجنسيا في "المثقفون والثورة: سقوط الانتلجنسيا العربية"، ومفهوم الفوذد والدوتشي والفوهرر إلى مفهوم السلطة المشخصنة، ومفهوم الانقلابية ثم الثورية إلى مفهوم الوحدوية، فما هو وحدوي لدى البيطار ثوري بالضرورة، وكي يكون اليسار يساراً حقيقياً يجب أن يكون وحدوياً. إذ تعبر هذه المرحلة عن الاندماج العضوي بين مفهوم الدولة - الأمة وبين مفهوم الحداثة. والبيطار هنا مفكر قومي علماني حداثي خالص، يرى عملية الاندماج الاجتماعي أو القومي عبر محورية الدولة، لنقل ما يسميه علماء الاجتماع، وما يستعيده البيطار في شكل الترسيمة الحرفية المدرسية، العلاقات الأولية التي تتجلى في الانقسامات العمودية الطائفية والدينية والعشائرية والاجتماعية إلى مستوى العلاقات الثانوية فتتطابق هنا مسيرة الأمة العربية من التجزئة إلى الوحدة مع مسيرتها من التقليدية إلى الحداثة.
بلور البيطار في هذه المرحلة الثانية نظريته للوحدة العربية، على أساس تحديد قوانين الانتقال من التجزئة إلى الوحدة بقوانين أساسية يمكن وصفها بالقوانين المكونة وأسباب إعدادية يمكن وضعها في إطار العوامل المكونة. ظل البيطار هنا أميناً لمفهومه للدولة بصفتها مركز عملية الاندماج الاجتماعي أو بناء الأمة، وركز على أولوية الدولة. ومن هنا رفض الطريق الاقتصادي للوحدة، من منطلق أنه لا يقود في ذاته، مجتمعاً مجزأًً أو كيانات سياسية مستقلة إلى الاتحاد السياسي، وأعطى العامل السياسي الأولوية الأولى، الذي يرى أنه "يتقدم على العامل الاقتصادي وغيره من العوامل الأخرى، لأن القوانين الرئيسية التي تتحكم بالعملية الوحدوية هي قوانين سياسية".
إن "الأمة هي أولاً وأساساً من عمل كيان سياسي واحد" يرتد إلى الدولة. دور الدولة يعود في ظهوره إلى دور القاعدة التي تمارسه، وتقع هنا القوانين المكونة للوحدة العربية في نظرية البيطار والتي يحددها بوجود إقليم - قاعدة يرتبط به ويتمحور حوله العمل الوحدوي في الأقطار أو الكيانات المستقلة المدعوة إلى الاتحاد ، ووجود قيادة مشخصنة تستقطب مشاعر الشعب، وتكسب حماسته وولاءه عبر الحدود الإقليمية، ووجود مخاطر خارجية تولد التحديات التي تدفع إلى الاتحاد في حين أن القوانين الإعدادية هي أسباب مساعدة. ولكن تعيين البيطار للإقليم - القاعدة ظل مشوباً بالارتباك. لقد راهن على سقوط الساداتية، واستعادة مصر لدور الإقليم - القاعدة وطرح مفهوم القاعدة المركبة من اتحاد قطرين اقترح أن يكونا ليبيا ومصر كخطوة أول، أو اتحاد سورية مع مصر كخطوة ثانية لتشكيل مثل هذه القاعدة التي ينيط بها وظيفة "الإقلاع الوحدوي". لكن إزاء إخفاق الرهان على هزيمة الساداتية، عاود تعيينه لمفهوم الإقليم - القاعدة وقال بإمكان حدوث تحولات تنقل هذا الدور الذي اضطلعت به مصر إلى قطر عربي آخر، ووضع ذلك في دائرة احتمالات، كأن "توحد أقطار الخليج في دولة جديدة" أو "إن ظهرت أوضاع وتحولات مناسبة يستطيع فيها العراق وضع نهاية لأنظمة الخليج، وضم أقطاره في دولة واحدة" فتستطيع هذه الدولة "بقوة وفاعلية، أن تفرض ذاتها كقاعدة، عندئذ يجب على العمل الوحدوي وجميع الوحدويين الاتجاه إليها والارتباط بها. خارج هذين الاحتمالين، لا يبدو أن هناك أي احتمال في انتقال هذا الدور إلى قطر آخر. الواقع أنه تحدث عن ضم العراق لدول الخليج بتعبير "السحق"، مع أنه في مكانٍ آخر يقول بأن الضم العسكري لم يعد ممكناً بسبب الظروف الدولية، لكن الممكن تغيير ثوري في الداخل تدعمه دولة الإقليم - القاعدة.
لا أعرف ماذا سيكتبه البيطار بعد النكبة الثالثة والاحتلال الأنكلو-أميركي للعراق، عن مصائر تلك القوانين الأساسية الحاكمة للوصول إلى الوحدة العربية، وإن كنت أفهم من بعض المقابلات التي تمت معه أنه بات يركز على ما يمكننا تسميته بالعنصر الدفاعي أو التوعية أو التركيز على العنصر الثقافي. وهذا مفهوم. لكن ماذا عن الموقف من مسألة الأقليات القومية واللغوية في الوطن العربي؟ في مفهومه السوسيولوجي للأمة الذي بلورته المرحلة الثانية يشير البيطار من بعيد إلى هذه المسألة لكنه لا يعيّنها. قد يمكن فهم ذلك في سياق موقفه من الإقليمية والإقليمية الجديدة. فموقفه باتر قاطع، يقوم على أنا عربي من البصرة وليس من العراق، وعربي من حلب وليس من سورية؟ وماذا عن الموقف من تحولات الفكر القومي العربي اليوم، باتجاه المجتمع المدني والديموقراطية ومفاهيم الحقوق والحريات السياسية؟ وماذا عن مفاعيل عملية العولمة في إعادة النظر بمفاهيم الاتحاد والانقسام، الاندماج والتفكك، وبروز العنصر الاقتصادي في الاتحاد والتكامل؟ نعم يمكن على نحو ما فهم المجتمع المدني لديه بوصفه المجتمع القومي المندمج اجتماعياً، وهو في ذلك يلتقي مع ياسين الحافظ، إلا أن مفهوم مؤسسات المجتمع المدني يبقى غائباً.
لقد حرص البيطار على بلورة ما وصفه ب"نظرية علمية جامعة" في كل مجال بحث فيه، وكان كل مجال مجرد واحدٍ من مجالات إشكاليته الجوهرية، المتمثلة بانتقال العرب من حال التجزئة إلى حال الوحدة، وإن تراجيدية المشروع القومي العربي، واصطدامه بالفاجع التاريخي يدفعان اليوم للتساؤل عما تبقى من نظرية البيطار، لا سيما بعد سقوط بغداد واحتلال العراق. كانت مصر هي النموذج لديهن لكن بعد أن يئس من استعادتها لمكانتها في زمن عبد الناصر، أشار باستحياء إلى العراق، مع أن الذي يجسد نظريته هو النظام القومي العراقي الذي انهار بفعل الاحتلال. فلقد قام هذا النظام على مفهوم الإقليم - القاعدة، وعلى القيادة المشخصنة، وعلى مواجهة مخاطر خارجية تولد الضغوط والتحديات. ولهذا يحق لنا أن نسأل البيطار عما تبقى من نظريته بعد احتلال بغداد؟
* كاتب سوري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.