دعت المؤسسة الثقافية السويسرية "بروفيلهتسيا" إلى لقاء في القاهرة تحت عنوان "الأدب في عصر الميديا" شارك فيه كلاوس ميرتس 1945 وبيتر شام 1963 من سويسرا وغسان زقطان من فلسطين وقد منعته السلطات الإسرائيلية من السفر، ومحمود الورداني وكاتب هذه السطور من مصر. اللقاء الذي أعد ورقته الشاعر جرجس شكري كان يهدف الى البحث عن أجوبة لمجموعة من الأسئلة بعدما غمرتنا وسائل الإعلام المرئية بالكثير من الصور التي لا تخضع لتدقيق، وحول دور الكلمة المكتوبة ودور الأدب إن كان قادراً على الإمساك بصورة الواقع ونقله في شكل مختلف، وهل أثرت سلباً في عدد القراء، وما الذي يجمع أو يفرق بين أدباء ينتمون إلى حضارات مختلفة... في ورشة العمل المغلقة التي تمت صباح أحد أيام الشهر الفائت استعرضت ورقة الأفكار السالفة، وأنا كنت فكرت بيني وبين نفسي في الموضوع وقدرت أن تأثير الميديا واقع على خلق الله جميعاً. وما دامت الكتابة معنية بالتعبير عن هؤلاء الخلق، فإن الأدب سيعبر عن هذا التأثر في نحو أو آخر، ثم لم أجد شيئاً آخر أفكر فيه وتوقفت مطمئناً إلى أن الأخوة السويسريين عندما يتكلمون سيسهلون لي معاودة التفكير والتدخل بعبارات لائقة. لم يمر وقت طويل حتى تبين، من واقع الترجمة التي تقوم بها الدكتورة علا الأستاذة في الألسن وحفيدة الشيخ على عبدالرازق، أن الأخوة السويسريين غير منتبهين الى مسألة الميديا هذه. وعندما قامت السيدة هبة راشد مسؤولة النشاط بالتدخل لتوجيه الكلام، تبين أنهم منتبهون ولكنهم غير متحمسين لهذا الموضوع. بيتر قال إنه شخصياً لا يشاهد التلفزيون في منزله إلا لماماً. وكلاوس قال إن هناك فجوات في معرفة كل منا بالآخر وأشار إلى أن الميديا لم تؤثر سلباً في عدد القراء عندهم، بل ان عددهم في ازدياد. هذا الكلام كان يعني بالنسبة إلي أنه ليس صحيحاً أن الناس عندنا لا تقرأ لأنها تجلس أمام التلفزيون ولكن لأن نظامنا التعليمي، إن كان ثمة نظام، غير مشغول بإقامة علاقة طيبة بين الطالب والكتاب بل هو نفره منه. ومسؤولية التلفزيون تأتي لاحقاً حيث يعمل بدأب على تعميق هذا النفور واستمراره. العلاقة بين الإنسان والكتاب إذا ما قامت لا تنتهي أبداً. قد يتكاسل هذا المرء عن القراءة إلا أن الكتاب يظل محتفظاً لديه بمكانة أثيرة لا تنتهي. المهم أننا انتقلنا إلى مواضيع أخرى ومنها سبل الدعم الثقافي هنا وهناك والعلاقة بين الدين والدولة وهل يعيش الكتاب من عملهم، ثم مدى التفاوت بين تأثير الرقيب الداخلي والخارجي إذ يكتبون وأمور أخرى من هذا القبيل. وفي الجلسة المغلقة الثانية كان كلام آخر. وبعد يومين كان هناك لقاء مفتوح. وأنا هنا لا أحكي كل ما جرى ولكنني أتوقف عند بعض الأمور التي استرعت الانتباه. كنا نتكلم عفو الخاطر لتأتي الترجمة متضمنة في شكل عابر عبارة "أنا لست سياسياً" أو "هذا موضوع سياسي" ونلحظ أن الواحد منهم لا يدفع عن نفسه تهمة، بقدر ما يرى في هذا الأمر السياسي تقليلاً من قيمته ككاتب. ولم يكن لهذا أي معنى سوى أننا نتحدث عن الأدب عبر ما هو سياسي من دون أي نية مبيتة بينما هم لا يفعلون. يقول بيتر مثلاً ان صوغ جملة واحدة صحيحة في هذا العالم هو إسهام لا يستهان به، وإذا كان على ربة البيت أن تجيد عملها وكذلك الطبيب أو المدرس أو البيطري أو ما شابه، فإن على الكاتب بدوره أن يفعل ذلك. أردت التعلل بأن أحداً ممن ذكرهم لم يعد يجيد عمله وسكت. و"بيتر" شاب حاد الملامح وموهوب جداً بالاعتماد على نصوصه التي ترجمت لنا ويتحدث شأن رجل يعيش في مجتمع استقرت مؤسساته المدنية في ظل عقد اجتماعي يصون حرية خلق الله وكرامتهم ويوفر لكل واحد إمكان الانصراف مطمئناً إلى عمله. كانوا حريصين على القول إن هذا لا يعني أنهم غير مشغولين أو لا يتابعون ما يجرى في العالم من حولهم ولكنهم يؤمنون ككتّاب بضرورة العكوف على التعبير عن طبيعة العلاقات الإنسانية والتأثير فيها. والآن يمكنك أن تشعر بأنك كاتب إلا قليلاً وسياسي إلا كثيراً وإن ذلك أفضل من لا شيء. و"كلاوس" كاتب كبير يكتب الرواية والشعر وله زاوية أسبوعية في إحدى الجرائد اليومية وفيه شيء من غونتر غراس لو أنه أصغر سناً مع شارب أخف. وقد قال وهو غاية في الذهول والتأثر انه بعد جلسة الأمس كان خرج ورأى سيدة أثناء عبورها الطريق بين العربات المسرعة انخلعت فردة حذائها في نهر الشارع ووقفت على الرصيف الآخر في محاولات مستمرة من الإقبال والإدبار لكي تستعيدها ولا تستطيع. والمشهد ظل عالقاً في ذهنه إلى ما بعد اللقاء المفتوح في قاعة المشربية والعشاء الضيق في المطعم الجانبي الصغير. لقد أكلت وشربت قدر الطاقة وودعت الناس الذين صاروا أكثر حميمية وتأثراً. انصرفت وحدي آخر الليل منتشياً في شوارع القاهرة بعدما أيقنت أن الأوضاع كلها ستظل معلقة حتى تستطيع السيدة استعادة فردة حذائها المخلوع.