مدرب الأخضر "رينارد" يكشف عن آخر مستجدات مواجهة العراق في خليجي 26    في أدبي جازان.. الدوسري واليامي تختتمان الجولة الأولى من فعاليات الشتاء بذكرى وتحت جنح الظلام    غوارديولا راضٍ عن أداء مانشستر سيتي رغم استمرار نزيف النقاط    طارق السعيد يكتب..من المسؤول عن تخبطات هيرفي؟    عمومية كأس الخليج العربي تعتمد استضافة السعودية ل"خليجي 27″    السلطات الجديدة في سوريا تطلق عملية بطرطوس لملاحقة «فلول النظام المخلوع»    وزارة الثقافة تُطلق المهرجان الختامي لعام الإبل 2024 في الرياض    بموافقة الملك.. منح وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الثالثة ل 200 متبرع ومتبرعة بالأعضاء    السعودية: نستنكر الانتهاكات الإسرائيلية واقتحام باحة المسجد الأقصى والتوغل جنوب سورية    الجيش اللبناني يتهم الاحتلال الإسرائيلي بخرق الاتفاق والتوغل في مناطق جنوب البلاد    أسبوع أبوظبي للاستدامة: منصة عالمية لبناء مستقبل أكثر استدامة    مدرب قطر يُبرر الاعتماد على الشباب    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي كبار ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة    تدخل جراحي عاجل ينقذ مريضاً من شلل دائم في عنيزة    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    الإحصاء: إيرادات القطاع غير الربحي في السعودية بلغت 54.4 مليار ريال لعام 2023م    السعودية رئيسًا للمنظمة العربية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة "الأرابوساي" للفترة ( 2025 - 2028 )    الذهب يرتفع بفضل ضعف الدولار والاضطرابات الجيوسياسية    استمرار هطول أمطار رعدية على عدد من مناطق المملكة    استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية بمنطقة تبوك    الفكر الإبداعي يقود الذكاء الاصطناعي    «الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    وطن الأفراح    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    المملكة ترحب بالعالم    حلاوةُ ولاةِ الأمر    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    نجران: «الإسعاف الجوي» ينقل مصاباً بحادث انقلاب في «سلطانة»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    مسابقة المهارات    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالة الى الشاعر ابراهيم ناجي
نشر في الحياة يوم 16 - 01 - 2002

} يُعتبر الشاعر المصري ابراهيم ناجي، الذي رحل قبل نحو نصف قرن، أحد أعلام حركة "أبوللو" الشعرية. الكاتب والشاعر السعودي غازي القصيبي سفير المملكة العربية السعودية في لندن، في رسالته الى ابراهيم ناجي هنا، ضمن سلسلة "رسائل كتّاب وشعراء" التي ينشرها ملحق "آفاق"، يحاور الحياة الشعرية الكاملة للراحل ابراهيم ناجي، حواراً وجدانياً عن الحب والغرور والحسد والحرمان:
رسالة الى صديقي ناجي
أتساءل، يا ناجي، كيف أحببت شعرك قبل أن أبلغ السادسة عشرة، ولا أزال أحبّه وقد تجاوزت الستين. لم تكن هذه حالي مع الشاعر الآخر الذي أحبّه: المتنبي. أعجبني المتنبي في فورة المراهقة، أيام اشتعال المشاعر القومية، وكتبت عنه مقالاً مليئاً بالمديح في صحيفة الحائط المدرسية. وشيئاً فشيئاً، بدأت أنفر منه: أنفر من شاعر لا يكاد يمجد سوى القوة، ولا يكاد يرى حوله إلاّ الحسّاد، ويحمل عن الطبيعة البشرية أسوأ الآراء. وعندما تجاوزت الثلاثين، بدأت، شيئاً فشيئاً، أعود اليه. بدأت أرى في شعره صورة الواقع الممسوخ الذي أصبحت أتعامل معه عن كثب، بعد أن كنت أطل عليه من برج الدراسة العاجي. أما أنت، يا صديقي ناجي، فلم يتغير حبّي لشعرك ولم يتبدل.
منذ ان قرأت في المدرسة الثانوية مقتطفات من شعرك في كتاب للدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي يحمل اسم "دراسات في الأدب الحديث"، أو اسماً مشابهاً، الى ان عثرت على ديوانك كاملاً أثناء دراستي الجامعية في القاهرة، الى هذه اللحظة وقصائدك تحتل من روحي البقعة نفسها، وتأخذ من قلبي المكان نفسه.
السبت: حكاية الغرور
لماذا؟! "أي سر فيك؟ اني لست أدري". كتب الباحث الشاعر البحريني علوي الهاشمي دراسة قيّمة عن قصيدتي "صدى من الأطلال" قارن فيها بين قصيدتي/ الصدى، والأطلال/ الأصل. وأورد في الدراسة وجوه شبه بيني وبينك، أحسبها تجاوزت العشرة، لم يخطر أي منها لي ببال. ولا تتوقع، أيها العزيز، ان أحدثك عن وجوه الشبه هذه. أخشى ان فعلت هذا ان يهبط عليّ أحد الذين يتابعون كل حرف أكتبه بالميكروسكوب صارخاً: "وجدته! وجدته!". وأسأل "ماذا وجدت؟"، ويقول: "الدليل القاطع على أنك مغرور! أنت تقارن نفسك بناجي!".
حكاية الغرور شائكة بعض الشيء. والكثيرون يخلطون بين الغرور، بمعنى الاستعلاء الممقوت على عباد الله. والغرور، بمعنى اعتداد الموهوب بموهبته. وأنت، يا عزيزي ناجي، كنت انساناً متواضعاً بسيطاً دمث الأخلاق، كنت كما وصفت نفسك:
اني من أكثر الأطباء اختلاطاً بالناس، واندماجا
في الشعب، صغيره وكبيره، مرضاي أصدقائي،
وزبائني ليسوا غرباء عني، فهم جزء غير منفصل
من حياتي، وقد عشت أؤمن ان المريض ليس "حالة"
كما يقول الأطباء كثيراً وإنما هو انسان، وان
العلاج لا يكون في تذكرة الدواء، وانما في
فهم ذلك الإنسان.
لم يتهمك، إنسان واحد، بحسب علمي، بالغرور. ومع ذلك يا ناجي قلت متباهياً:
سائلي الأعماق عن غوّاصها
أنا صيّاد لآليها... أنا!
وقلت مفاخراً:
لن يحبوك كحبي... لن يروا
ضاحكاً مثلي ولا حزناً كحزني
وقررت أنك شاعر مصر الوحيد:
أيا مصر ما فيك العيشه ساهر...
وما فيك من مصغٍ لشاعرك الفرد
هل يدل هذا على أنك كنت مغروراً؟ لا! كنت فناناً يعتز بموهبته، والفنان الذي لا يعتز بموهبته لا يستحقها. وسرعان ما يفقدها. أحسبني، في هذا، تلميذك!
الأحد: "حكاية زازا"
من هي زازا يا ناجي؟ هناك من يقول انها فلانة، وهناك من يقول انها علانة، وهذا يقسم على صحة ما يقول، وذاك يبرهن على صدق دعواه. وزازا في قصائدك تبدو، شأنها شأن ملهماتك كلهن، في رداء ملائكي، تقطر بالصبا والحنان:
جئتني في الربيع والروض عار
فكسوت الربى عذارى البراعمْ
وأجال الربيع أخضر كفيه
ليمحو اصفراره المتراكم
رحلة للنجوم لم تك أوهاماً
وبعض النعيم أوهام حالم
وزازا، شأن بقية الملهمات، "ظالمة الحسن شهية الكبرياء":
أيّها الطاعم الكري ملء جفنيك
وجفني من الكرى غير طاعم
أبكني واستبدّ بي وأقض ما شاء لك الحسن فيّ واظلم وخاصمّْ
غير هذا النوى فإن لياليه ظلالٌ من المنايا حوائمْ
وكالعادة، تبدو زازا الصغيرة أمّا تدلل طفلها الكهل:
تعجبت زازا وقد... حُقّ لها أن تعجبا
لما رأت فيّ شحوب الشمس مالت مغربا
وهي التي زانت مشيبي بأكاليل الصبا
وهي التي قد علمتني حين ألقى النوبا
كيف أداري الناب أن عضّ... وأخفى المخلبا
هل كانت زازا، حقاً، رفيقة صباك، المرأة الوحيدة التي أحببتها، كما يقول لنا عاشق من عشّاق شعرك هو حسن توفيق؟ أم كانت زازا واحدة ضمن أخريات، كما يقول لنا عاشق آخر من عشاق شعرك هو صالح جودت؟ هل يهم، يا صديقي ناجي، ان نعرف خلفية القصيدة، وخلفية البطلة، وقصة الحب، وتفاصيل العلاقة والعناوين والشوارع إن أمكن!، لكي نستطيع ان نفهم القصيدة كما ينبغي، كما يقول لنا بعض سادتنا النقّاد؟ أم ان القصيدة وحدة مستقلة ذات سيادة، كدول العالم الثالث التي تذكرنا بسيادتها بمناسبة ومن دون مناسبة، ولا يهم ان نعرف بطلتها، ولا التجربة التي أوحت بها، كما يقول لنا بعض سادتنا النقاد؟
أنا لا أحب التطرّف، يا صديقي ناجي، - وأحسبك، بدورك، تبغضه - ولهذا أقف موقفاً وسطاً بين المدرستين للقصيدة، بعد أن تعرف كل شيء عن خلفياتها، نكهة خاصة، وللقصيدة، من دون ان تعرف شيئاً عن خلفياتها، نكهة خاصة. ولا أرى سبباً للمعركة التي لا تزال محتدمة بين النقاد.
يرضي فضولي أن أعرف زازا الحقيقية، ولكن يكفيني منها انها ألهمتك:
كنت في برج من النور عليّ
قمة شاهقة... تغزو السحابا
وأنا منك فراش ذائب/
في لجين من رقيق الضوء ذابا
فرحٌ بالنور والنار معاً
طار للقمة محموماً... وآبا
آب من رحلته... محترقا
وهو لا يألوك حُبّا... وعتابا
زازا، كائنة ما كانت، شكراً جزيلاً!
الاثنين: حكاية الحسد
وماذا عن الحسد، يا صديقي ناجي؟ صاحبنا المتنبي كان مهووساً بالحسد، ولهذا سُمي ابنه محسد وسميته في روايتي العصفورية "أبا حسيد". ماذا عنك؟ لم تذكر الحسد إلا في أواخر أيامك، وأواخر قصائدك ، حين قلت:
يا دياراً يومها من سحب
وغيوم... وضباب أفق غدْ
كل نبتٍ عبقري اطلعتْ
جعلت منه طعاماً للحسدْ
ناقشت هذه القضية في كتابي "مع ناجي... ومعها". وتساءلت لماذا تصوّرت نفسك طعاماً للحسد رغم ان أحداً لم ينافسك، بحسب علمي، على بلاط سيف الدولة أو بلاط الملك فاروق؟ اتضح ان المقطع كان ردة فعل جاءت نتيجة قرار من "لجنة التطهير الثورية" قضى بإخراجك من عملك باعتبارك "طبيباً غير منتج". ماذا كنت تتوقع، يا عزيزي ناجي، من لجنة اسمها "لجنة التطهير" مُشكّلة بأمر من عساكر أحسبهم لا يفهمون "التطهير" إلا بمعناه العامي؟! لم يكن تصرفهم ناتجاً عن الحسد. الحسد مرتبة متقدمة نسبياً في سلم العواطف البشرية. كان قرارهم مبنياً عن الجهل - والجهل خصلة يشترك فيها الإنسان والحيوان.
وماذا فعلت، يا ناجي؟ هجوتهم، فقلت:
يا فؤادي! لا تلمني! اخوتي
أفسدوا القربى وأمي جهلتني
اسفرت عن خُُلُقٍ مستنكرٍ
أوجه ناكرة... قد انكرتني
وهذا شعر ركيك، يا أبا خليل، وهجاء ضعيف. ليتك قلت في هجائهم ما قلت في هجاء ثقيل أزعجك:
يا عبقرياً في شناعته
ولدتك أمك وهي معتذرة!
ولكن لم الهجاء أيها الشاعر الرقيق؟ اغفر لهم، يا صديقي، فإنهم لم يكونوا يعلمون ما يفعلون.
الثلثاء: حكاية الحرمان
وما هي قصة الحرمان، يا صديقي ناجي؟ صديقك الشاعر أحمد رامي كان يقول، ويكرر، ان الحرمان ملهم الشعر الأوحد، وأنه ما من شعر حقيقي إلا ومنبعه الحرمان. وهذا رأي متطرف بعض الشيء، وقد عرفت رأيي في التطرف، ولكني أسألك عن رأيك أنت. وأنا أسألك، يا عزيزي ناجي، لأني، أشك، مجرد شك، ان الحرمان كان ملهمك أنت، ربما لم يكن الملهم الأوحد، ولكنه كان ضمن الملهمين. بعد دراسة مستفيضة لقصيدتك "الأطلال" التي حفظتها كاملة في سن السادسة عشرة، وصلت الى اقتناع انه ليس في القصيدة ما يشير الى علاقة حب متبادل. قلت في محاضرة لي عن "الأطلال" تضمنها كتاب "قصائد أعجبتني":
لعلّ هذا هو المكان الأنسب لأصارحكم بشعور خفي
يراودني نحو حقيقة العلاقة بين بطلي الملحمة،
وربما راود بعضكم وأنتم تستعملون الى
شاعرنا يروي القصة. هذا الشعور هو
ان الحبيبة، في واقع الأمر، لم تحب شاعرنا
على الإطلاق، وكانت العلاقة من جانبها شيئا
كالإعجاب، أو الصداقة أو مزيج منهما.
قصيدتك الرائعة الأخرى "ظلام"، وهي محور كتابي "مع ناجي... ومعها" توصلني الى النتيجة نفسها، وهي ان العلاقة مع الحبيبة كانت من طرف واحد، هو أنت أيها العزيز ناجي. وصديقك صالح جودت يشهد على طبيعة العلاقة حين يقول عن بطلتها:
... وهام بها الى حدّ أنها كانت كل همّه
وشغله أكثر اليوم من مطلعه الى مطلع
اليوم الذي يليه. ثم وجدت عنده ما لم
تجد عند غيره من نزعة الروح دون الجسد،
واحسب انها، وقد عرفتها عن كثب،
كانت لوناً فريداً لا تستهويه نزعة الجسد.
لا عليك، أيها الصديق. في محاضرتي عن الأطلال قلت:
عبر التاريخ وجد كل شاعر عزاء عن
حب فاشل أو حب ضائع في الشعر
لا بل ان لنا ان نتساءل أيبحث الشاعر، / بالفعل، عن الحبّ أم هو، في حقيقة الأمر، / يبحث في الحبّ عن إلهام لشعره، وأيهما
أهم بالنسبة للشاعر أن ينجح في حبه / أو ينجح في شعره. أما نحن، معشر القرّاء،/ فلا يهمنا إلاّ الشعر
الأربعاء: حكاية شعر المناسبات
شعر المناسبات يملأ مكاناً لا يستهان به من ديوانك، يا ناجي العزيز. لو كان لي من الأمر شيء لحذفت هذا الجزء الكبير، نهائياً، غير آسف ولا متردد. أنا، من حيث المبدأ، لا أعترض على شعر المناسبات، ولكني أفرق بين نوعين منه كثيراً ما يخلط بينهما النقّاد والقرّاء. هناك شعر حقيقي، نابع عن تجربة حقيقية، ولم تكن المناسبة سوى شرارة فجّرت القصيدة. وهناك نظم سقيم مفتعل. لا يستند على عاطفة، موضوعه الأول والأخير هو المناسبة نفسها. لا اعتراض لي على النوع الأول من شعر المناسبات. حقيقة الأمر ان معظم القصائد الجميلة في تاريخنا كانت في مناسبة أو أخرى - وتكفي الإشارة هنا الى سيفيات صديقنا المتنبي. أما النوع الثاني، فإدخاله ضمن الشعر هو إهانة لا تغتفر، للشعر، وللذوق.
لا أدري كيف سمح شاعر "الأطلال" لنفسه ان يضمّن ديوانه شعراً كهذا:
اليك أزف في اليوم الجليل
تحيات الزميل الى الزميل
أو كهذا:
وزيري الطيّب الحرّ الجليلا
تقبّله هوى حُرّاً نبيلا
أو كهذا:
انت فوق التكريم فوق الثناء
جلّ ما قد أسديت عن اطراء
أو كهذا:
ان السراة الأباظيين قد عظموا
عن طوق ندّ وعن تحليق أضداد
قصيدة واحدة، واحدة فقط يا عزيزي ناجي، من قصائدك في المناسبات اقتربت من الشعر الحقيقي في أبيات منها. القصيدة في رثاء شوقي والأبيات هي:
هيهات أنسى قبل بينك ساعة
جمعت صحابك في غروب نهارِ
والشمس في سقم الغروب وأنت في
لون الشحوب معصفر ببهارِ
منحْت وقد ذهبت شعاعاً غارباً
كسناك طوّافاً على السمّارِ
أما الذين جمعوا أبياتك بعد موتك فقد كان الأولى بهم أن يحذفوا العبث الركيك الذي يكتب على صورة أو فيي أوتوغراف - مثل:
سلام الشعر والشعرا
على البلدية الغرّا
ومثل:
ايه "سونيا" ايه "سونيا"
انت دنيا... انت دنيا
نتمنى على أي حال ان تكون البلدية طربت لشعر كهذا، وان سونيا سُرّت بهذا السخف، شأنهما شأن "ربابة ربة البيت"!
الخميس: حكاية شعر الإخوانيات
لنقف قليلاً عند اخوانياتك، يا ناجي. لا بُدّ لي أن أصارحك ان رأيي في الإخوانيات، بخلاف آرائي المعتادة، لا يخلو من تطرف. وهذا الرأي يذهب الى ان الإخوانيات قد تندرج في باب النكت والنوادر إلا انها لا ينبغي ان تدخل عوالم الشعر المسحورة. ومع هذا، فأنا لا أستطيع ان انكر ان الإخوانيات كانت موضوعاً أثيراً عند عدد من الشعراء العرب عبر السنين. ولا أستطيع ان أنكر ان القراء العرب يحبون شعر الإخوانيات، ويحفظون الكثير منه. وفي ديوانك عدة قطع من الإخوانيات، أصنّفها مع شعر المناسبات الذي لا يستحق البقاء. إلا ان هناك قطعة واحدة، واحدة فقط يا عزيزي ناجي، تقطر بالظرف والمرح - وأرى ان من حق القراء الذين لم يقرأوا سوى شعرك الدامع ان يروا فيها شعرك الضاحك. والقطعة مداعبة موجهة الى صديقك الشاعر محمود غنيم، تصف ما حدث له مع ديك رومي في وليمة عند أحد "السراة الأباظيين":
بصرتُ به والصحن بالصحن يلتقي
فلم أر أبهى من غنيم وأظرفا
تراءى له لحم فلم يدر عنده
"تديك" من بعد الطوى أو "تخرّفا"
وأومأ لي باللحظ يسألني به
"أتعرفه؟" أومأت باللحظ مسعفا
وقدّمته للديك وهو كأنما
يطير اليه واثباً متلهفا
غنيم! أخونا الديك! قدمت ذا لذا
فهذا لهذا بعد لأي تعرّفا
وما هي إلا لحظة وتغازلا
وقد رفعا بعد السلام التكلفا
فمال على الورك الشهي ممزّقا
ومال على الصدر النظيف منظفا
جزى الله اسناناً هناك عتيقة
ظللن على الصحن الأباظي عكفا
الجمعة: حكاية الشوارد
وما أكثر شواردك، يا صديقي ناجي. والشوارد هي الأبيات "الطائرة"، التي يسهل فهمها، التي يسهل حفظها، التي يسهل الاستشهاد بها، والتي تدخل، في العادة، تاريخ الشعر. كان العرب، ولا يزالون، يحبّون الشوارد، البيت المكتفي بذاته، "قصيدة البيت الواحد"، بحسب تعبير الأديب الليبي خليفة التليسي. اترك القارئ، إذاً، مع مجموعة من شواردك، واسمح لنفسي ان اختار لكل بيت عنواناً يلخّص التجربة.
تجارة خاسرة
اشتري الأحلام في سوق المنى
وأبيع العمر في سوق الهموم
الهزيمة
طأطأت للبين المشتت هامتي
وخفضت للقدر المغير جناحي
العاشقة
مرّ الغريب فباعدت يدها
وخلا الطريق... فقرّبت فمها
غربتان
يا حبيبي! كان اللقاء غريباً
وافترقنا فبات كل غريبا
الوطن
إني غريب... تعال يا سكني
فليس لي في زحامهم أحدُ
سماء مفتوحة
وإذا ضاقت السماء بشجوى
فالسماء التي يعينيك أرحبْ
الحمى
أيها الآسى لناري هذه
ما الذي تفعل بالنار الدفينة؟!
الخيانة العظمى
خدعتنا مُقلتاه... خدعتنا
وجنتاه... خدعتنا شفتاهْ!
فوق الحياة
لست أنساكِ... وقد علمتني
كيف يحيا رجل فوق الحياة
منتهى الكذب
كَذبتْ كفٌ على أطرافها
رعشة البعد واحساس المُسافرْ
شموخ الألم
وإذا انحطّ زمان لم تجد
عالياً ذا رفعة إلا الألم
الوداع
مرّ الهوى في سلام
فلنفترق أصدقاء
الخلاصة
وما العمر إلا أنت والحب والمنى
وما كان باقي العمر غير ضلال
الجرح الكوني
بيَ الجرح جرح الكون من قبل آدم
تغلغل في الأرواح يدمي ويستشري
موت... وحياة
إذا كان في لحظيك سيف ومصرع
فمنك الذي يحيي ومنك الذي يردي
وبعد، أطلنا الحديث، أيها الصديق ناجي، فإلى لقاء آخر!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.