لم يكن أحد في المؤسسة الحكومية التي تعمل فيها سهام يتوقع ما سيحدث لها بعد اقل من ساعة على بدء الدوام الرسمي. كانت في كامل زينتها، في ثياب أنيقة، جلست إلى مكتبها كالعادة وأنجزت جزءاً من عملها، لكنها قبل أن تنتهي الساعة كانت جثة هامدة. لقد صعدت إلى الطابق العاشر وألقت بنفسها في الفراغ، وفي يدها ورقة كتبت عليها: "لا علاقة لأحد بانتحاري، لم يبق في الحياة ما يستحق أن أعيش من أجله". وقيل ان السبب خيانة الرجل الذي تحبّ. حدث ذلك العام 1986. في عام 1973، انتحر بالطريقة نفسها رحمن سلمان وهو طالب في قسم الرسم في أكاديمية الفنون الجميلة جاء إلى بغداد من مدينة العمارة الجنوبية، وكان سبب انتحاره عاطفياً أيضاً. وعلى ذكر الرسامين، انتحر الفنان العراقي إبراهيم زاير في بيروت عام 1972، بلا سبب ظاهر للوهلة الأولى... قيل انّه فعل لأسباب بعضها شخصي وبعضها الآخر يتعلق بالوضع العربي الحرج الذي افقد الشباب في شكل خاص ثقتهم بأنفسهم وبالآخرين. اطلق النار على رأسه قبل أن يبلغ الثلاثين. ومن المصادفات الغريبة ان الابن الوحيد لإبراهيم زاير ولد في ليلة 24 نيسان ابريل 1972، ليلة انتحار أبيه، وسمي الى إبراهيم كأنه جاء بديلاً للذي رحل. أما ذكرى الأب بالنسبة لإبراهيم الثاني فبعيدة وشاحبة وهو غير مشغول فيها، حتى انه لم يزر قبر ابيه في مدينة النجف التي لا تبعد عن بغداد سوى 200 كيلومتر إلا قبل سنتين. وقد وجده مهدماً فسعى إلى ترميمه ربما للتخلص من عقدة ذنب أو استعادة ذكرى بعيدة قبل أن تختفي آثارها نهائياً. انتحار جماعي أما أشهر حادثة انتحار في عقد التسعينات في بغداد، وأشدها قسوة فكانت من دون شك الانتحار الجماعي الذي خططت له ونفذته الكاتبة والمترجمة والأستاذة الجامعية المتخصصة في الأدب الروسي، الدكتورة حياة شرارة، وأودى بها مع إحدى ابنتيها فيما نجت الابنة الأخرى بأعجوبة. كانت خطة الانتحار تقوم على استنشاق الغاز حتى الموت في غرفة مغلقة بعد أخذ كمية كبيرة من الحبوب المنومة، بحيث يأتي الموت تدريجاً وبهدوء. أما أسباب انتحار حياة شرارة التي تنحدر من عائلة لبنانية هاجرت إلى العراق في أوائل القرن الماضي، وعرفت باهتماماتها الثقافية والفكرية، فلها علاقة باضطهاد سلطات النظام السابق للمثقفين واحتقار أحلامهم وطموحاتهم والتضييق عليهم. كانت تقدمت مرات عدة بطلب إذن للسفر خارج العراق، لكن طلبها كان يرفض لأنها أرملة بحاجة إلى "محرم"، أي إلى رجل من محارمها يرافقها في السفر، ويكون مسؤولاً عن تصرفاتها وإعادتها إلى العراق ثانية... وهي الأستاذة المرموقة والشخصية الثقافية التي عاشت سنوات طويلة في موسكو حين كانت شابة. ظاهرة غير شائعة وعلى رغم فداحة المأساة التي عاشها العراقيون طوال 35 عاماً، إلا ان الانتحار لم يكن ظاهرة شائعة في المجتمع العراقي، لقد ظل حلاً أخيراً لا يتم اللجوء إليه إلا نادراً. أما هل زادت حالات الانتحار أم قلت في الشهور الثمانية التي أعقبت سقوط نظام صدام، فلا أحد يعرف الإجابة أو يستطيع المقارنة في ظل غياب الوثائق التي تتعلق بموضوع الانتحار، وكانت تعتبر من أسرار الدولة التي يتم التعتيم عليها أو تزويرها لتنسجم مع خطاب إعلامي فضفاض يشيد بقيم الفروسية والبطولة والصبر على الشدائد من دون الالتفات الى المشاعر الإنسانية ولا إلى أحلام الكائن المعذب الذي أرهقته ظروفه وذاق المرارات كلها!