قبل ان يستقيل قلبه من عادة النبض كان عبدالستار عبداللطيف، السياسي والوزير العراقي السابق، قد ودع الطموحات والاحلام الكبيرة. لم يحتفظ في السنوات الاخيرة في منفاه الاسباني الطويل الا بحلمين: الاول رؤية العراق يخرج من قبضة صدام حسين والثاني الرجوع الى بغداد لينتظر فيها ساعة الموعد مع ترابها. وحينما غدره القلب، قبل يومين، وقال اصدقاؤه انه سيهاجر الى مقبرة الاعظمية جاءت النصيحة من الاهل في بغداد بإرجاء موعد العودة. وكأنما كتب لهذا السبعيني الذي ارغم على تمضية نصف عمره في المنفى ان يحرم حتى من جنازة عادية في المدينة التي ارتكب فيها احلامه. ولهذا سيوارى اليوم في ملقا في حضور بعض الاهل وحفنة اصدقاء. مر غيابه هادئاً. فمنذ عقود غاب اسمه من الاخبار. ثم انه لم يكن عاشق نجومية يوم كان في السلطة ولا تاجر معارضة حينما كان خارجها. لكن قصته تشبه قصة الشاهد فقد كان حاضراً باستمرار على خط الزلازل العراقي. فالضابط الشاب الذي تخرّج من الكلية العسكرية في 1947 كان من اوائل "الضباط الاحرار" في العقد التالي. وحينما نزل عبدالسلام عارف سراً من جلولاء الى العاصمة في 10 تموز يوليو 1958 لاعداد اللمسات الاخيرة لثورة 14 تموز كان عبدالستار عبداللطيف حاضراً ومن ابرز ضباط "قيادة بغداد" في تنظيم الضباط الاحرار وأوكلت اليه مهمة السيطرة على معسكر الرشيد. كان موضع ثقة زعيمي الثورة عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف، وحينما وقع الطلاق بينهما رفض التنكر لعارف ورفض اغراءات الزعيم الأوحد. بعد خمسة اعوام من ثورة 14 تموز سيكون عبدالستار عبداللطيف شريكاً في حركة 8 شباط فبراير 1963 التي اوصلت البعث الى السلطة وكان حازم جواد مهندسها وقائدها. وحينما تنكر عبدالسلام عارف لمن نصبوه رئىساً انحاز عبداللطيف الى المعتدلين الذين يمثلهم حازم جواد فأبعده عارف سفيراً في بروكسيل. لم يستسغ احمد حسن البكر وصدام حسين بقاء عبدالستار عبداللطيف في بغداد. فخاطفا البعث يريدان شطب كل الرموز التي يصعب ترويضها. وهكذا ارغم في 1969 على سلوك طريق المنفى. ووسط تعاقب الفصول والسنوات كان الرجل ينظر الى العراق فيرى الشاب الذي كان غائباً في شباط 1963 يدمر الحزب والجيش والبلاد ويضع مصير الاعناق والارزاق في قبضته. وكان عبدالستار عبداللطيف يموت كثيراً وطويلاً. لم تكتب القصة الكاملة ل"ثورة 14 رمضان 1963" بعد. غاب عبدالسلام عارف ولم يكتب، ومثله علي صالح السعدي. وبقيت "خزنة الاسرار" لدى حازم جواد الذي يشارك اليوم في تشييع رفيقه بعدما شيّع في المنفى احلاماً كثيرة.