سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
نائب رئيس الوزراء العراقي السابق الزعيم الركن رجل الانتفاضات والانقلابات يعترف . عبدالغني الراوي : طلبوا تنفيذ الحكم فأمرت بإطلاق النار على الزعيم الأوحد رفض قاسم عصب عينيه وانتظر الرصاص صامتاً وهتف رفيقاه للحزب الشيوعي 3
بدأت الخمسينات العراقية في ظل نكبة 1948 التي عاد ضباط الجيش العراقي منها غاضبين وناقمين. وجاءت ثورة 23 يوليو تموز 1952 في مصر لتشعل حماسة عدد من الضباط الذين اعتبروا ان مسؤولية التغيير تقع على عاتق الجيش. راحت الخمسيات العراقية تغلي. الشيوعيون يرسخون حضورهم في الاوساط العالمية. البعثيون يبنون فرعهم العراقي الطري العود ثم يندفعون في العمل السري وتنظيم التظاهرات. والناصريون يحاولون استيحاء النموذج الذي ارساه جمال عبدالناصر. وصبّت الأحداث النار على زيت النقمة. حلف بغداد والعدوان الثلاثي على مصر وممارسات نوري السعيد. في الثكن تكاثر الهمس. تكتل الضباط في مجموعات صغيرة تجمعها الرغبة في التغيير من دون الاتفاق على ملامحه التفصيلية. ضباط كثر سيرتكبون هذا الحلم وبينهم عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف وعبدالوهاب الشواف ورفعت الحاج سري وناظم الطبقجلي وعبدالغني الراوي وآخرون. وفي 1957 ستبدأ المجموعات في التكتل في حلقات اكبر. وفي ذلك الوقت كان فؤاد الركابي وحازم جواد وعلي صالح السعدي يحاولون توسيع حضور البعث في بغداد وخارجها. ولم تكن للضابط احمد حسن البكر علاقة بالبعث الذي سينتسب اليه لاحقاً بعدما جمعته سجون الثورة بقياديين بعثيين. في حرب فلسطين تبادل قاسم والراوي احاديث عادية. لكن ما لفتني في رواية الراوي عن تلك الايام هو ان عبدالكريم سأله فجأة ان كان قرأ كتاب "الامير" لميكيافيللي فرد بالايجاب. في 1958 سينطلق بين بعض ابرز "الضباط الاحرار" ما يشبه السباق الى تنفيذ الثورة، ما يشبه السباق الى السلطة. وتذخر ذاكرة الجنرالات العراقيين بروايات عن تلك المرحلة تقسم الضباط بين متحمسين ومترددين. روايات غالباً ما فشلت الكتب في حسم صحة بعضها فقد كان العمل سرياً. وبعض ما قاله اللاعبون لاحقاً عنها شابته مسحة من تلميع ادوار وتصغير ادوار. وبين تلك الروايات واحدة تقول ان قاسم فضل ارجاء موعد الثورة ليكون قائدها وهو ما تيسّر له في 14 تموز يوليو 1958 يوم دخل حليفه العقيد عبدالسلام عارف بغداد التي سيصل اليها الزعيم قاسم بعد ساعات. يقول عبدالغني الراوي انه والشواف خططا لاحداث التغيير في 12 أيار مايو من تلك السنة. وانه خطط لاغتيال الوصي عبدالاله ونوري السعيد. ويشدد على ان تراجع ضابطين عما تعهدا به حرمه والشواف من تنفيذ الثورة قبل قاسم وعارف. وسيشارك الرجلان في ثورة 14 تموز وسيقتل الشواف بعد عام اثر تمرده عليها وسيدخل الراوي السجن بسبب التمرد نفسه. انفرد عبدالكريم قاسم بالسلطة. باكراً صادر القاب عارف الشجاع المتهور المتعجل. دفعه الى سفارة في الخارج وحين كابر وعاد دفعه الى السجن مع حكم بالاعدام امتنع عن الامر بتنفيذه. في 8 شباط فبراير 1963 هندس حازم جواد وصول البعث الى السلطة. كان ورفاقه في العشرينات وشعروا بالحاجة الى اسم ورمز فأحضروا عارف في الساعات الاولى. ويقول الراوي انه كان واضحاً ان جواد كان مسؤولاً عن عارف الذي سيدفع البعثيين لاحقاً الى خارج السلطة لينفرد بها بدوره. في 9 شباط 1963 وبعد قصف معقله في وزارة الدفاع بالطائرات والدبابات رضخ قاسم لمصيره فنقلوه الى الاذاعة حيث كانت قيادة الثورة. كثر كانوا هناك بينهم جواد والسعدي وعارف والبكر وآخرون. وكان الراوي شريكاً وكان حاضراً. في ذلك اليوم اعدم عبدالكريم قاسم بعد حوار مرير مع رفيقه في ثورة 14 تموز. اعلن يومها ان محكمة شُكّلت وقضت بإعدام قاسم. ثمة من يقول ان قرار الاعدام كان جاهزاً عملياً، وان حديث المحكمة شكلي. والراوي يقول انه كان رئيس المحكمة وانه امر بتنفيذ الحكم فتحول "الزعيم الأوحد" جثة. وهنا نص الحلقة الثالثة: هل كانت لك علاقة مع الضباط الاحرار قبل ثورة تموز 1958 ومع اي مجموعة منهم؟ - كنت مدير حركات الفرقة السادسة، وهي الفرقة التي كان معظم الضباط فيها من الذين شاركوا في الثورة. عبدالكريم قاسم آمر اللواء 19 وطاهر يحيى آمر كتيبة المدرعات وعبدالسلام عارف آمر فوج وهناك ضباط آخرون نسيت اسماءهم. كنت رئيساً لمجموعة من 41 ضابطاً شارك 38 منهم في الثورة. هل كنت تعرف عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف قبل تنفيذ الثورة؟ - نعم. انا اعرف عبدالكريم قاسم منذ كنت طالباً في الكلية العسكرية، حيث كان قاسم آمر الفصيل الذي كنت فيه وكنا 264 طالباً، كما زاملته في فلسطين سنة 1948 وكان هو برتبة مقدم وانا برتبة نقيب. وكذلك عبدالسلام عارف عرفته قبل الثورة. من هو برأيك قائد ثورة 1958 وكيف تنظر الى شخصية كل من عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف؟ - عبدالكريم قاسم هو القائد، وعبدالسلام عارف جاء قبل قاسم ب6ساعات لكن هذا لا يلغي كون قاسم هو القائد. البيان الاول للثورة كتبه عارف ووقع عليه قاسم. قصة 12 أيار ما هي قصة 12 أيار 1958 وما هو دورك فيها ولماذا لم تنجح هذه الحركة؟ وهل صحيح انك خططت لاغتيال عبدالاله ونوري السعيد في حفلة عامة؟ - هذا صحيح لقد خططت لاغتيالهما. اما قصة 12 أيار 1958 فقد كنت رُقيت للتو الى رتبة عقيد ركن، وكنا في تمرين عسكري في الصحراء بحضور الملك والوزراء والسفراء وكذلك بعض الضيوف، وفي طريق العودة الى بغداد تحرك اللواء 15 الذي أقوده في مقدم الألوية، ووصلت الى ابو غريب في 11 من ذلك الشهر على ان نبيت في بغداد وفي الصباح تجهز القطارات لنقل اللواء الى البصرة حيث مقره الدائم. ليلة 11 - 12 ايار حاولنا القيام بحركة 12 أيار. انا كنت رئيس الحركة ومعي المقدم فاضل عساف والمقدم حسن عبود. كنا شباناً متحمسين، وكنا حمقى. اما لماذا لم تنجح الحركة، فذلك لأنني كنت متفقاً مع المقدمين عساف وعبود على ان نقوم بالحركة تلك الليلة. بعد وصولنا الى ابو غريب، قادمين من الرطبة، اثر انتهاء التمرين. اعطى المقدم فاضل عساف اجازة للجنود والضباط وكذلك فعل المقدم حسن عبود، وذهب كل منهما الى منزله في بغداد للمبيت. وكان مقرراً ان نقوم بالحركة عند الساعة 12.30 ليلاً. المقر كان في النادي العسكري في بغداد، وهناك كان العقيد الركن عبدالوهاب الشواف، وحضر يومها باللباس المدني الى النادي عبدالكريم قاسم، وهو كان قائد القطاعات العسكرية في منصورية الجبل 70 كيلومتراً عن بغداد فيما كان عبدالسلام عارف يتمركز مع قطاعاته العسكرية في "جلولاء". طلب الشواف من قاسم ان يذهب الى مقره في منصورية الجبل على ان يحضر غداً مع عبدالسلام عارف، وقال له: "اسمعوا الاذاعة غداً. واذا سمعتم نبأ قيام الثورة تحركوا مع قواتكم الى بغداد لمساعدتنا". بعد ذلك اجتمع نحو 90 ضابطاً في نادي مدرسة الدروع في معسكر ابو غريب، وقلت لهم: "أنا حاضر والفوج التابع لي جاهز للمعركة". كانت الساعة التاسعة مساءً. المشكلة ان فوجين أعطيا اجازات بأمر من المقدمين حسن عبود وفاضل عساف. وعندما حصلت على ارقام منزليهما قمت بالاتصال بهما، فردت زوجة حسن عبود، وقالت: "حسن ذهب مع الاولاد الى الحمام". اما زوجة فاضل، فقالت لي ان زوجها ذهب مع الاولاد الى السينما. ولهذا فشلت الحركة بسبب اعطاء فوجين كاملين اجازات. هل تجزم ان عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف كانا على علم بالحركة؟ - رئيس الحركة كان عبدالوهاب الشواف، ومن المفترض ان يصبح بعد نجاح الحركة رئيس وزراء ووزيراً للدفاع وانا اصبح القائد. ومن الطبيعي ان يكون عبدالكريم قاسم وكذلك عبدالسلام عارف على علم بالحركة، بدليل انه طلب منهما التحرك بقواتهما اذا ما سمعا عن الثورة من خلال الراديو. هل كنت على علاقة بعبدالوهاب الشواف، ولماذا اعتقلت بعد حركته عام 1959؟ - نعم. تربطني بعبدالوهاب الشواف صلة قرابة اذ ان جده لأبيه وجدي لأبي اولاد عمة. وكذلك كنا جيراناً في بغداد. وهو بدأ حياته شيوعياً. بعد فشل حركته، ظهرت قائمة فيها 10 أسماء وكنت من ضمنهم واعتقلوني نهارا من منزلي، واعتقل كذلك عارف عبدالرزاق وبعد اسابيع اعتقل 760 ضابطاً. وكانت لديهم نية لاعتقال المزيد بهدف تنظيف الجيش. ثورة 1958 ماذا كان دورك في ثورة 1958 وماذا فعلت؟ - كنت آمر فوج في البصرة، وكان آمر الفوج الذي قبلي لا يزال في مقر الفوج. بمعنى انني ما زلت عملياً وكيلاً لآمر الفوج. جاءني ضابط من ضباط الثورة، ومعه راديو صغير وقال لي: "سيدي ربعنا زملاؤنا فعلوها قاموا بالثورة" ولأن آمر الفوج كان في اجازة، اصدرت الاوامر بالتزود بالوقود ووزعت العتاد العسكري وأمرت بالاستعداد للمعركة. تحركت وسيطرنا على المحافظة وبعض الدوائر الحكومية. ماذا كان دورك في ثورة 14رمضان 1963؟ - عندما بدأت الثورة انا ومجموعة كنا في الاذاعة وارسل عدنان القصاب بسيارة "فولكس واغن" لإحضار عبدالسلام عارف، وهو لم يكن يعلم بالثورة وليس بعثياً، أحضرناه من منزله وكان وقتها محالاً على التقاعد وسلمناه رئاسة الجمهورية. وكانت رئاسة الجمهورية بالتناوب بين اعضاء مجلس قيادة الثورة. ماذا كان دورك تحديداً؟ - كنا في رمضان، وكنت ذهبت لأتناول الافطار مع اولادي عند احد اقاربي وحضر الى منزلي احمد حسن البكر وذياب العلكاوي تكريتي وبعد ان عدت الى المنزل تركت الاولاد عند الباب وذهبت للتسامر مع الاصدقاء، كما هي العادة في ليالي رمضان، عدت الى المنزل متأخراً فوجدت البكر قد ترك لي ورقة مفكرة كتب عليها: "اخي ابو محمد وكان ذلك رمزاً متعارفاً عليه بيني وبين البكر ارجو حضورك الى منزلي الساعة 7.30 صباح الغد". ذهبت الى منزل البكر صباحاً، وكان اتصل بي في السادسة صباحاً. وعند وصولي الى منزله، أُبلغت انه تحرك الى جامع بيت الدراقة وانه طلب مني الالتحاق به، وفي الجامع أُبلغت انهم ذهبوا الى طريق الفلوجة. تحركت بسيارتي نحو الفلوجة، لم أجد أحداً بسبب الصيام، وكنت على علم بالثورة، وكنت أتناقش مع البكر حولها، وهو طلب مني ان اؤمن الحماية اللازمة للثورة، وقد كان متخوفاً من ان يضرب من الحبانية. قال لي انهم يسيطرون على بغداد. قلت له: انت غلطان أتريد ان تبدأ الثورة في بغداد وهي تعج بالشيوعيين؟ أنت تحتاج لجيش جرار للسيطرة على بغداد وتطويقها. المهم انني واثناء مغادرتي للفلوجة، علمت من خلال المذياع بأن الثورة بدأت. وسبب عدم عثوري عليهم، هو: انهم قرروا ان يكون بث بيان الثورة من مرسلات الاذاعة الموجودة على الطريق بين بغداد والفلوجة. عندها توجهت الى مقر اللواء في الحبانية وقابلت قائد اللواء الرائد الركن داود الجنابي وأمرت بتزويد السيارات بالوقود وتوزيع عتاد الخط الاول. تنفّذ أو أعدمك! ولكنك كنت ضابطاً متقاعداً، بأي صفة أعطيت الاوامر؟ - داود الجنابي، كان على علم بالثورة، ولديه تعليمات من البكر بأنه وقت اعلان الثورة سيحضر عندك شخص انت تحبه وتحترمه كثيراً، ولهذا عرف الجنابي انني الشخص الذي تحدث عنه البكر. زودت السيارات بالوقود ووزعت العتاد على الجنود عتاد الخط الاول ووضعت في حساباتي خطة التحرك الى بغداد. وأبلغني الرائد ركن داود الجنابي ان هناك ضباطاً شيوعيين يسكنون الحبانية، وابدى تخوفه من انهم قد يؤثرون علينا في حال تحركنا، طلبت منه ان يعطي أوامر الى سرية الانضباط بإلقاء القبض عليهم. حدث خلاف حول هذه النقطة مع قائد الانضباط الرائد عبدالجبار السعدي. كان لا بد من الحسم. وتحدثت الى عبدالجبار وقلت له: "أنت تأخذ الأوامر من عندي وتنفّذها واذا لم تنفذها: أصفّك على الحائط وأعدمك". باشرنا الحركة من الحبانية نحو بغداد وطلبت اجهزة لاسلكي للأفواج وحصلنا على بعض منها، وكان توزيعنا كالتالي: فوج الى الكاظمية وفوج الى وزارة الدفاع وفوج ثالث لا أذكر تفصيل تحركه الآن، وانا في مقر اللواء. وأصدرت الاوامر وعينت الطرق التي نسلكها لترتيب ما يشبه الكماشة على الشيوعيين الموجودين في الكاظمية، وقع قتال في الكاظمية. وصلنا بغداد بعد الظهر، وكنا كنوع من الحرب النفسية ولرفع معنويات جنودنا، نطلق النار في الهواء في اماكن محددة من المدينة. استسلام قاسم حوصر قاسم في وزارة الدفاع وقصفته الطائرات؟ - قصفته ثلاث طائرات. أُسقطت واحدة بوسائل مضادة للطائرات. قفز الطيار وذهب وعاد في طائرة اخرى ليتابع مهمته. كيف استسلم قاسم؟ - انا جئت على رأس قوة تضم 912 ضابطاً وجندياً. الفوج قوته اكثر من الف جندي. اليوم كان يوم جمعة و14 رمضان، فلم يزد عدد الموجودين على 286. الفوج الآخر 293. الفوج الثالث 306. المهم ان المجموع كان 912. خصصت فوجاً لوزارة الدفاع وارسلت الفوجين الآخرين الى منطقة الكاظمية. الفوج الذي خصصته للدفاع ضم 306 من العسكريين. وزارة الدفاع هي عبارة عن قلعة على نهر دجلة من ايام الاتراك. الجانب الغربي على النهر وليس هناك جسر. بقيت الاضلاع الثلاثة. الشمالي يفصله عن المستشفى الجمهوري شارع. الشرقي شارع الرشيد. الجنوبي من شارع الرشيد الى نهر دجلة قبالة النادي العسكري. للقلعة ثلاثة ابواب رئيسية وهي نقاط الضعف الوحيدة فالباقي جدار. في المقابل كان في وزارة الدفاع نحو 5400 عسكري بين ضابط وجندي. تحسبت للمعركة بمضاعفة الذخائر. فبدلاً من ان يكون لدى الجندي 120 طلقة أمنت له 360 والامر نفسه بالنسبة الى الدبابات والمدافع. تحسبت لاستمرار المعركة اياماً عدة. وجهت كل الاسلحة الى الابواب الثلاثة لمنعهم من الخروج والمهاجمة مستفيدين من التفوق العددي. كثافة القصف دفعتهم الى الاعتقاد بأن وحدات كبيرة تحبط بهم وتقصفهم. هذا هو سبب النصر. القتال اندلع يوم الجمعة واستسلم قاسم ظهر السبت. خلال الليل لم يكن هناك من ضوء سوى وميض القذائف وضوء القمر. دخلت قواتنا معظم وزارة الدفاع. كان قاسم خرج من مقره الى مقر الانضباط العسكري ومنه الى قاعة الملك فيصل الثاني الملاصقة للوزارة والتي كانت سميت قاعة الشعب بعد ثورة 1958. لم نكن ندري انه انتقل الى هناك. بقيت ثلاث نقاط مقاومة. واحدة في الاستخبارات العسكرية يقودها العقيد وصفي طاهر رئيس المرافقين لقاسم، وهو شيوعي. والانضباط العسكري بقيادة الزعيم الركن عبدالكريم الجده. وقاعة الشعب. تبين لاحقاً ان كل نقطة يدافع عنها ثلاثة جنود. دخل المهاجمون الى قاعة الشعب وكان احد الضباط اقسم ان يضع القيد الكلبجة في يدي قاسم. وصل اليه فقال قاسم: أنا لا ازال ضابطاً وهذا لا يجوز. فقال له الضابط: "لقد أقسمت". ووضع القيد في يديه. ونقل الى الاذاعة؟ - وضعوه في ناقلة مدرعة في حين أُصعد قريبه فاضل المهداوي وطه الشيخ احمد الى ناقلة اخرى. حين دخل الموكب شارع الرشيد صفق الناس للجيش فظن قاسم ان التصفيق له فراح يلوّح بيده. الضابط المرافق ضربه على يده وطالبه بالتوقف. كان مقر قيادتي في الاذاعة. وجاءت قيادات بينها قيادات بعثية. انا لم اكن حزبياً في اي يوم. وعبدالسلام عارف؟ - لم تكن له علاقة بالحركة. ليلة الثورة ارسلوا له عدنان القصاب ليبلغه فسأله: "هل أرتدي ثياباً عسكرية ام مدنية؟". فردّ عليه: "كما تريد". نحن عملنا للثورة شهوراً بل سنوات. عبدالسلام عارف جاء في اللحظة الاخيرة. كان احمد حسن البكر صديقه. محاكمة قاسم من حاكم قاسم؟ - كنت رئيساً للمحكمة برتبة زعيم عميد ركن وكان معي خالد مكي الهاشمي عقيد ركن وكان عضو اليسار عبدالكريم مصطفى نصرت عقيد ركن. ماذا حدث في المحاكمة؟ - كنا في الغرفة المخصصة للحفلات الغنائية او التسجيل. الجدران عازلة للصوت. كانت هناك مجموعة من كراسي الخيزران التي تستخدمها الجوقة الموسيقية. وهناك بيانو. كانوا اربعة: عبدالكريم قاسم وطه الشيخ احمد وفاضل عباس المهداوي وكنعان الجده رحمه الله. انا وضعت رجلي على الكرسي المخصص للاعب البيانو والغدارة الرشاش بيدي. جاء صالح مهدي عماش وهو تلميذي في الكلية العسكرية. وجاء علي صالح السعدي سكرتير حزب "البعث"، ولم اكن اعرفه، وبدأ يشتم عبدالكريم قاسم ويهينه. غضبت. قبّلني عماش وقال لي هذا سكرتير حزب "البعث". خرجا ثم دخل عبدالسلام عارف. وقف قاسم ووقف عارف. بينهما مسافة متر ونصف، وانا على مقربة منهما. قال قاسم لعارف: انا كان باستطاعتي سابقاً ان أعدمك ولم أفعل. فردّ عارف: أمرك ليس في يدي بل في يد الجماعة اي المحكمة. كانت هذه آخر جملة. ماذا قالا قبل ذلك؟ قال عارف لقاسم: "البيان الرقم واحد لثورة 14 تموز 1958 من كتبه أنت أم أنا؟". لم يجب قاسم. التفت عارف الي وقال: "والله العظيم أنا كتبته كله. وللحلال والحرام أقول. كنت برتبة عقيد ركن وكان برتبة زعيم ركن. أعطيته البيان فبدّل فيه كلمتين فقط". قلت: يمكن أن يضع الخطة نقيب أو رائد. القائد الذي وقع تصبح مسؤوليته. يمكنه ان يمزق الورقة ويضع غيرها. أنا أتكلم كعسكري. قال قاسم لعارف: دعني أخرج ولو الى البرازيل أو الارجنتين كما خرج أديب الشيشكلي". فرد عارف: "أمرك ليس في يدي بل في يدهم وأشار إلينا". خلال وجودي في الحبانية حصل اتصال بيني وبين عبدالكريم قاسم وشتمته. قلت له: "الى أين ستذهب اليوم. اليوم سأذبحك". كنت على مسافة 140 كيلومتراً واستعد للسير الى بغداد. كنت رئيس المحكمة ماذا سألته؟ لا شيء. نحن قمنا بثورة ضده وهذا يعني أن حكمه الإعدام، ولو فشلنا لأصدر بحقنا الحكم نفسه. وتنفيذ الاعدام؟ تم بأمر مني. ضابطان ورئيس عرفاء. كل منهم كان مسلحاً برشاش "ستيرلنغ". كيف أصدرت الأمر؟ جلس قاسم ورفاقه. نادوني الى غرفة مجاورة حيث جرت المحاكمة عملياً. كانت الغرفة مكتظة بالحاضرين جلوساً ووقوفاً. نحو 40 شخصاً احتشدوا في الغرفة، بينهم شبان صغار جاؤوا بفعل الحشرية. عبدالسلام عارف كان واقفاً قرب المدفأة. طلب من عريف كان هناك ان يغلق الباب ويخرج. قال عارف: اخواني نحن الآن نحاكم عبدالكريم قاسم. نحن ثورة وحكمنا عليه بالاعدام ولو فشلنا لحكمنا بالاعدام. نريد موقفاً صريحاً من كل واحد. أبدأ بنفسي. "انا أحكمه بالاعدام". وراح يسأل الحاضرين ويجيبون إعدام إعدام إعدام. في الركن كان عبدالستار عبداللطيف. وصل الى قاسم الجنابي وهو مقدم ركن وهو مرافق اقدم لقاسم وليس رئيس المرافقين وصفي طاهر الذي قتل في المعركة. كان حردان التكريتي أخرج قاسم الجنابي وارسله الى البيت. وكان العميد محسن الرفيعي مدير الاستخبارات العسكرية لدى قاسم وعلاقتهما قديمة. محسن الرفيعي أخرجه عارف عبدالرزاق. الجنابي لم يكن شيوعياً وكان لطيفاً يعرض خدماته على الآخرين. سألني عارف عن موقفي فقلت: "إعدام ولكن تنفيذ الاعدام بعد سنة". فاستنكر. قلت: "بعد ستة أشهر". كرر موقفه. قلت: "شهر واحد". على الأقل لاجراء تحقيق معه ونطلع على ما يعرفه. فأجاب: "نحن سيطرنا عليه. بغداد تغلي وتريد الانتفاض علينا. أي تأخير في قتله سيؤدي الى ثورة لن نستطيع السيطرة عليها. عدم تنفيذ الاعدام بسرعة سيؤدي الى فشلنا". التفت عارف الى الجميع وقال: "أنتم أمام رأيين: الأول يقول بالتنفيذ الفوري والثاني بالتنفيذ خلال ثلاثة أو ستة أو تسعة أشهر. من يؤيد التنفيذ الفوري؟". ارتفعت أيدي ما يزيد على 70 في المئة من الحاضرين؟ من يؤيد التنفيذ لاحقاً؟ رفعنا أيدينا وكنا ربما نحو عشرة ثم راحت الأيدي تنزل وبقيت يدي مرتفعة. قال لي: "بقيت أنت وحدك؟ فأجبت: "ما هذه المحكمة وما هذا التصويت؟". والتنفيذ؟ قلت لهم باستطاعة كل واحد منكم أن يكتب وصيته. رد قاسم: "أنا لن أكتب وصية". فتضامن الآخران بصوت واحد: "أنا لن أكتب وصية". اعطيتهم عصابات لاغلاق عيونهم. قال قاسم: انا لا أريد اغلاق عيني. فكرر الآخران موقفه. قلت لهم من يريد أن يتشهد فليفعل. تجاوب الملازم أول كنعان الجده الذي كان معهم. لم يتشهد الآخرون. كانت المسافة بيني وبين قاسم نحو متر ونصف. كنت أعرف انه كان يصلي ابان العهد الملكي وكان يصوم. كنت أراقبه. راح قاسم يهز برأسه وفمه مغلق بشدة ويضغط على شفته بأسنانه. أردته أن يتشهد. لم أفهم ماذا جرى. هل أطبق فمه بقوة كي لا يتشهد أم ان الله سبحانه وتعالى لم يرده أن يتشهد. فجأة قطع طه الشيخ أحمد الصمت وقال: "يعيش الحزب الشيوعي العراقي، يعيش". سمع المهداوي هذا الكلام فانطلق هاتفاً: "يعيش الحزب الشيوعي العراقي". عندها قلت للعسكريين: "وجه، اطلق النار". اعدموهم لأنني أردت أن أمنعهم من تكرار الهتاف. أنا مسلم. ومتى أحلت الى التقاعد للمرة الأولى؟ تقاعدت حين وضعني عبدالكريم قاسم في السجن. أنا في آخر العهد الملكي كنت برتبة عقيد ركن. عندما حصلت ثورة عبدالوهاب الشواف في الموصل 1959 كنت بين العشرة الأوائل الذين ادخلوا السجن. بقيت في السجن 119 يوماً. وخلال فترة سجني أحلت الى التقاعد في خطوة شملت 760 ضابطاً. عندما خرجت من السجن كنت بين 19 ضابطاً أعيدوا الى الخدمة العسكرية. الذين احيلوا على التقاعد هم من الضباط القوميين والاسلاميين أي من المناهضين للشيوعية. وكانت هناك قائمة قيد الإعداد تشمل 400 ضابط بهدف تنظيف الجيش من الضباط المعادين للشيوعيين. خلال وجودنا في السجن أبلغنا مقربون من عبدالكريم قاسم انه استقبل ذات ليلة السفير الأميركي وبعده السفير البريطاني. وقالوا ان السفيرين أبلغاه ان بلديهما لا يمكن أن يقبلا تحول العراق معقلاً للشيوعيين في ظهر حلف بغداد المؤلف من باكستان وايران وتركيا. وأضافا ان حصول ذلك سيستدعي رد فعل قوياً من جانب بلديهما يمكن أن يصل الى حد التدخل كما حصل في كوريا. وذكر هؤلاء ان عبدالكريم قاسم رد قائلاً: "أنا لست شيوعياً. أنا تقدمي". هنا اعتبر ان عليه إعادة بعض الضباط تفادياً لخلل كامل في التوازنات داخل الجيش. غداً حلقة أخيرة