لم تستطع الأعين العربية التي ذهبت إلى الغرب، على سبيل الدرس أو الرحلة أو حتى بواسطة الترجمة، أن تحرر نفسها من سطوته، أو تتخلص من انبهارها إزاءه، فظلت هذه الأعين أسيرة ضوء الإعجاب الذي يربك، ويوقع في أسر الاتِّباع السالب أو الموجب. وكلاهما إذعان بالسطوة، وتسليم بالتفوق، وانطلاق من تراتب مضمر يتحكم في علاقات المثاقفة، فيضع الأعين الرائية في موقع التابع، وموضوع الرؤية أو الإدراك في موضع المتبوع. ولا فارق في ذلك، جذرياً، بين الذي يتصور الغرب بصفته الإطار المرجعي الأوحد للحضارة الحديثة التي لا يمكن الدخول من أبوابها إلا بتقليده واستنساخ طرائقه في التحديث والحداثة، أو بين الذي يرفض الغرب رفضاً مهتاجاً، ينطوي على معنى الثأر الذي يسعى إليه المغلوب في علاقته بالغالب. وكلا الموقفين لا يخلو من الأصل المعرفي نفسه، حيث مطلق النفور يستوي ومطلق الإعجاب في فقدان القدرة على الإدراك الموضوعي الذي تضع به الذات العارفة مدركاتها موضع المساءلة التي تتجسد بها علاقات التكافؤ المعرفي، تلك العلاقات التي لا تعرف التراتب القمعي أو القسري - حتى على المستوى الشعوري - بين أطراف فاعلة ومنفعلة، متبوعة وتابعة. ولا أتصور أن هناك خلافاً جذرياً بين الغرب الرأسمالي والغرب الاشتراكي من منظور هذه الرؤية، فلم يفض تحديق الأعين العربية في هذا الغرب أو ذاك إلى نقد جذري له، أو تأسيس لمراجعات شاملة، ومنها تلك المراجعات التأسيسية التي نقضت المركزية الأوروبية فكرياً وثقافياً، ولم تكن من بينها مراجعات عربية. وحتى عندما تحوّلت عملية نقض المركزية الأوروبية إلى تأسيس لخطاب ما بعد الاستعمار لم نسمع إلا عن مراجعات إدوارد سعيد في زمننا المعاصر، ولم نسمع من قبله عن مراجعة جذرية، اللهم إلا بعض إرهاصات في كتابات أنور عبدالملك وسمير أمين، وهي إرهاصات معاصرة تؤكد - في تضافرها مع كتابات إدوارد سعيد - معاني الاستثناء وليس القاعدة، كما تؤكد في الوقت نفسه عدم وجود مراجعات جذرية للغرب الرأسمالي أو الشرق الاشتراكي الذي ظلت جرثومة الخلل الداخلي تنخر في أبنيته إلى أن تهاوت. ولم تجد قبل تهاويها نقداً جذرياً من الذين جعلوها مهوى أفئدتهم وعقولهم، ولا محاولات مؤثرة من المساءلة كتلك التي دفعت إرنست فيشر، مثلاً، في مجال النقد الأدبي، إلى كتابة كتابه الذي لم يترجم إلى العربية، بعد، وهو كتاب "الفن ضد الإيديولوجيا". واللافت للانتباه في هذا المجال أن الكثير من الأعين العربية التي انبهرت بالضوء الماركسي، وجعلته إطاراً مرجعياً في النظر، لم تقم بوضع مبادئ هذا الإطار موضع المساءلة الحقيقية، وتقبلت - في الأغلب - مصادره الثانوية وتأويلاته الدوغمائية تقبل التسليم الاتِّباعي، مؤسسة بذلك نوعاً من الأصولية الثقافية المنغلقة، غير المنفتحة على تجارب الإنسانية، وغير المرنة في فهم بعض الأصول التي اكتسبت صفات القداسة الموهومة، فكانت النتيجة تكرار نماذج النقد الفج الذي كتبه أمثال عبدالعظيم أنيس عن نجيب محفوظ، أو النقد الدوغمائي الذي كتبه محمود أمين العالم في الخمسينات. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكتب الأستاذ أبو سيف يوسف مقالاً مدوياً بعنوان "نقادنا الواقعيون غير واقعيين" تعليقاً على الآراء التي احتواها كتاب العالم وأنيس "في الثقافة المصرية" الذي اتهمه كثيرون لنزعته "الإرهابية". ويمكن أن أضيف إلى الملاحظة السابقة الخاصة بالمعنى الاتِّباعي للأعين التي انبهرت بالغرب، وعجزت عن وضعه موضع المساءلة، المعنى الاغترابي الذي اقترن بمحاولة هذه الأعين أن ترى عوالم الغرب في عوالمها الخاصة، وذلك من دون أن تضع في اعتبارها اختلاف السياقات، أو إمكانات الإبداع الذاتي المرتبط بطرائق مغايرة في التقدم. وكان ذلك جنباً إلى جنب نزعة استعلائية عكس بها التابع علاقته بمتبوعه الأصلي، وأحالها إلى علاقة جديدة بين الآتين من الغرب، وهم الأرقى، والباقين في المواطن الأصلية، وهم الأدنى الذين عليهم التعلم من الأرقى والإفادة منه. وكانت النتيجة إبقاء أفكار الحداثة على مستوى السطح، وفي دوائر النخبة التي لم تنجح في اختراق الحوائط الصلدة التي انغلقت بها التقاليد الجامدة على الجماهير العربية. ومن المؤكد أن هناك استثناءات في كل اتجاه، وفي كل مراحل العلاقة بالغرب، ولكن هذه الاستثناءات لا تنقض القاعدة الأساسية من ناحية، ولا تتعارض مع التحولات التي حدثت من مرحلة إلى أخرى من ناحية ثانية. وذلك أمر ينطبق حتى على المراحل المعاصرة التي عرفت بداية تراكمات كمية مغايرة، نتيجة المعرفة بكتابات نقض المركزية الأوروبية الأميركية في ديارها والتأثر بكتابات خطاب ما بعد أو نقض الاستعمار، فالبداية لم تصل بعد إلى تحول التراكمات الكمية إلى تغيرات كيفية. ولذلك لا تزال العلاقة الثقافية بالغرب محكومة بالمبدأ الاتِّباعي الذي يرتبط بانبهار الأعين بما رأته - وما لا تزال تراه - في الغرب. وقد وجدت نفسي - نتيجة إلحاح هذه النتيجة على تتبعي لأشكال العلاقة المعرفية بالغرب منذ نهاية القرن الثامن عشر - بحاجة إلى تأكيد أن علاقتنا بالغرب لم تكن علاقة تكافؤ قط، في تحولاتها أو تجلياتها الحديثة، سواء في رؤيتنا إياه بعيوننا العربية، أو رؤيتنا لأنفسنا من خلال مراياه التي لا تزال تضعنا أمام تخلفنا، فقد بدأت هذه العلاقة بصدمة الهزيمة التي تفجّرت في الوعي القومي مع سقوط "قنبر" نابليون بونابرت على مصر في ختام القرن الثامن عشر. ودفعتنا هذه الهزيمة إلى معرفة أحوال المنتصر، واكتشاف أسرار تقدمه مقابل أسرار تخلفنا. وتتابعت الرحلات إلى أقطار المنتصر الذي غداً جمعاً وليس مفرداً، وتكاثرت رؤى الأعين التي لا تزال تبحث في عوالم المتقدم عن أسباب تفوقه المتصل، في الوقت الذي ترى في مراياه العوامل التي لا تزال تحول بيننا والتقدم الذي نحلم به لكي نكون شبيهين بهذا المنتصر في أوجه تقدمه الدائم. وكانت المعضلة، دائماً، هي كيف نشبهه من غير أن ننسخه، وكيف نحذو حذوه من غير أن نكون إياه. صحيح أن المشابهة تعني المغايرة حتى لو أدنت بطرفيها إلى حال من الاتحاد، لكن المشابهة - من زاوية مغايرة - تعني اتّباع صورة لأخرى، أو جعل المشبّه به الطرف الأعلى الذي يُلحق به المشبّه لتأكيد صفة من صفاته. هكذا، كانت العلاقة بالآخر الغربي علاقة اتِّباع نابع من عدم تكافؤ العلاقة، وذلك على نحو قَرَنَ الاتِّباع بالتبعية. وكما قلت، فهناك بعض الاستثناءات التي لا تنفي القاعدة، ولا تنفي أن المنظومة المعرفية التي حكمت إدراكات الرؤية وآلياتها ظلت واحدة، لا تفارق تراتب العلاقة بين "الآخر" الأعلى و"الأنا" الأدنى. وقد زاد من حدّة هذا الوضع التباس الوجه الاستعماري بالوجه الحضاري للغرب الذي لم نكف عن محاولات التشبه به في آلية ولع المغلوب بتقليد الغالب التي نعرفها منذ ابن خلدون. وفي تقديري أن حرص كُتّاب الرحلات إلى الغرب من أمثال رفاعة على إعلان تمسكهم بشريعة دينهم، وأنهم لا يستحسنون إلا ما يستحسنه العقل المحصّنُ بالشرع، والعكس صحيح بالقدر نفسه، هو نوع من الآلية الدفاعية التي ظلت الأنا القومية تلجأ إليها، مخافة الذوبان في الغرب، أو الوقوع في شراك الاتِّباع الذي هو الوجه الملازم للتبعية. ويبدو أن المقاومة المضمرة والمعلنة - في نصوص أمثال الطهطاوي وخير الدين التونسي - لهذا النوع من الاتِّباع، كانت الوجه المقابل للمسكوت عنه من خطاب الرغبة التي اقترنت بالوقوع في شباك غواية الاتحاد بالآخر أو التشبه به إلى آخر المدى. ولذلك انبنت الكتابة عن هذا الآخر على تعدد المستويات، المتجاورة المتوازية، أو المتضاربة المتعارضة، وذلك داخل النصوص التي يبين ظاهرها عن باطنها، ويكشف المنطوق منها عن المسكوت عنه فيها من الكلام غير المباح النطق به. وما أكثر الحالات التي تبين فيها رؤية الغرب عن نوع من التضاد العاطفي الذي يجمع بين الإعجاب والنفور، الإقبال والإحجام، القرب والبعد، رغبة الاتحاد ورغبة الانفصال، هذا التضاد العاطفي تظهر علاماته الظاهرة في مساقات الكتابة التي اعتدنا - نحن الدارسين المعاصرين - أن نراها بأعين الإعجاب التي جعلتنا لا نرى من هذه المساقات إلا جوانب الإعجاب الخالصة فحسب. ويبدو أن سقوط الوطن العربي تحت وطأة الإرهاب الديني الذي سعى إلى أن يعود بنا إلى الوراء، مدعوماً ببعض الأقطار التي استغلته للإبقاء على أوضاع التخلف لمصلحتها، وحالات الردة الثقافية التي شهدتها الأقطار العربية، مقرونة بمثالب التعصب والتطرف والأصوليات الفكرية الجامدة بألوانها المختلفة، كلها عوامل تحكمت على نحو لا شعوري في الكيفية التي استعدنا بها كتابات أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، وذلك لنوقظ الذاكرة الجمعية التي كادت تستسلم لأفكار التطرف والتعصب والإظلام، ونبعث في هذه الذاكرة من جديد الحضور المتوهج للاستنارة التي امتلأت بها كتابات أمثال الطهطاوي والتونسي. وكانت هذه الكتابات - في آليات التأويل المحكومة بالرغبة - منارات الاستنارة التي يقضي نورها على وهاد الظلمة، ويطرد خفافيش الظلام التي لا تزال تعشش في ربوعنا. وكان إعجاب رفاعة بتقدم الآخر الغربي وانبهاره به، على أساس من مبدأ التحسين والتقبيح المحصن بالشرع، بعض مبرر إعجابنا نفسه، في مواجهة نزعات الانغلاق والانعزال عن العالم الحي. ولم ننتبه - في حومة الدفاع عن الاستنارة - إلى أن هذا الدفاع نفسه يجب مراجعته، خصوصاً في دائرة العلاقة بالآخر الغربي والنظر إليه، لا على سبيل الخصومة معه، أو العداء العرقي له، أو التعصب الديني ضده، وإنما على سبيل تأسيس أوضاع أكثر صحية للرؤية، وشروط أكثر إيجابية تتيح للأعين ما لم تره من قبل من صفات "المرغوب" التي تجمع ما بين السلب والإيجاب. أعني الصفات التي لا يمكن الفصل التام فيها - كما تعودنا أن نفعل - بين السياسي والثقافي، أو الحضاري والاستعماري. فالثقافي ملتبس بالسياسي، والحضاري لا يخلو من الاستعماري في تجليات الغرب الذي أصبحنا أقدر على رؤيته بوضع معرفتنا به موضع المساءلة. هذا ويختلف الوضع الجديد الذي أتحدث عنه اختلافاً جذرياً عن النظرة الأصولية التي يلوذ بها بعض المتطرفين المتمركسين الذين لا يقلّون تعصباً أو تطرفاً عن غلاة الأصوليين المتأسلمين. فالمتطرفون الأول يرفضون الغرب الرأسمالي، متهمين المعجبين به، أو الآخذين عنه بالتبعية في كل الأحوال، ولكن من منظور اتهام لا يخلو هو نفسه - كما أشرت - من التبعية التي تنبني على تقليد نصوص ماركسية ثانوية، أو على مواقف متصلبة تبرر الجهل بالعداء لموضوع المعرفة، تحقيقاً للقاعدة القديمة التي تقول: من جهل شيئاً عاداه. والواقع أنه لا فارق بين تقليد هذا الماركسي الجدانوفي أو تقليد ذاك المفكر أو الناقد البورجوازي في العالم الرأسمالي. فأصل التقليد واحد في كل الأحوال، والنظرة الأصولية المتصلبة هي نفسها الواصلة بين المتمركس الذي يرمي الآخرين بالتبعية، مقرونة بالخيانة، والمتأسلم الذي يرمي الجميع بالتبعية نفسها، مقرونة بالكفر. والوضع الجديد الذي أتحدث عنه ليس هو الوضع الأصولي في أقصى اليمين، أو في أقصى اليسار، وإنما هو الوضع المعرفي الذي يضع كل شيء موضع المساءلة، بما في ذلك الذات العارفة نفسها، جنباً إلى جنب الموضوع المدرك، وذلك تحريراً للذات العارفة من رواسب وعيها الزائف الإيديولوجيا المسيطر عليها، وتحريراً للموضوع المُدْرَك - بفتح الراء - من وهج الإعجاب المفرط وغوايات الموضوع المقرونة بأشكال الإيديولوجيا الملازمة له والملتبسة بحضوره. ويقترن هذا الوضع الجديد بالنقد الثقافي في أشكاله التي تكشف عن نواتج علاقة التابع بالمتبوع، جنباً إلى جنب مكتشفات "خطاب ما بعد الاستعمار" بمنجزاته المعرفية التي جعلتنا أكثر إدراكاً لآليات العلاقة غير المتكافئة بين الأنا القومية والآخر الغربي، وأكثر معرفة للوازم هذه العلاقة ووسائل الغواية الإيديولوجية التي ظلت مصاحبة لها. وأتصور أن هذا الوضع المعرفي الجديد يعين على صنع عدسات مغايرة لرؤية الغرب بعيون غربية، عدسات ترى عمليات الرؤية نفسها، وتلمح مستوياتها المتعارضة، والمتصارعة، وذلك على مستوى الخطاب المقموع من الذات، أو المعتم عند الرؤية السائدة، أو المسكوت عنه من خطاب الذات الذي لم ننطقه نتيجة تحيزاتنا السابقة. وأتصور أن هذا الوضع هو ما نلمحه في الكتابات التي تدين بوجودها لمحاولات أمثال أنور عبدالملك وسمير أمين وإدوارد سعيد وغيرهم، كما تدين لأفكار نقض المركزية الأوروبية وإسهامات خطاب ما بعد الاستعمار. وكلها إنجازات تسهم في صنع عدسات مغايرة، وتطرح أسئلة مختلفة، أسئلة تقول: كيف نكون مثل هذا الآخر الغربي في تقدمه ولا نكون مثله في الوقت نفسه؟ وكيف نعيد إنتاجه على شاكلتنا من غير أن يكون هو نحن أو نحن هو؟ وكيف يمكن أن نبدع تقدمنا إبداعاً ذاتياً من غير هذا الآخر؟ وهل يمكن الاستغناء عنه بغيره الذي هو نحن أو غيرنا المناقض له؟ وأين غيره المناقض؟ وهل يمكن أن نبدع ذاتيا من غير وضع أنفسنا موضع المساءلة في الوقت الذي نضع الآخر النظير والنقيض الموضع نفسه؟ وكيف ذلك؟ وإلى أي مدى نستطيع أن نسهم في نقد ثقافته ونقض هيمنته التي لا تزال منسربة في كل اتجاه ومجال؟ وهل يمكن أن يتم هذا الإسهام بلا إفادة من هذا الآخر الغربي ومعرفة ما أنجز على مستوى نقده الذاتي؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير لا يزال مطروحاً علينا. ورثنا بعضها عن عيون أسلافنا التي رأت ما أدهشها، ووضعنا نحن بعضها الآخر نتيجة شروط زماننا. ويمكن أن نضيف إلى هذه الأسلئة غيرها من الأسئلة التي تولدت بفعل الحوار في ندوة "العربي" التي يستحق التحية من فكّر فيها، ومن قاموا بتنظيمها.