عندما أستبطن ما يلازم وعينا الأدبي - أو النقدي - المعاصر من إلحاح على صفة العالمية، تأكيداً لاستحقاق أدبنا العربي لها، أجد أن هذا الإلحاح يرتبط بدوافع متباينة في العديد من سياقاته. أكثر هذه الدوافع إثارة للتوتر والالتباس دافع سلبي قديم، لا تزال له جروحه الغائرة في وعي التابع الذي لا يفارق دائرة التشبه بالمتبوع، حتى في آلياته الدفاعية التي تسعى إلى حماية هويته من كل ما يهددها، فتنتهي إلى تخييلات تعيد إنتاج الخطاب النقيض الذي تسعى "أنا" المتبوع إلى التحرر من هيمنته الطاغية. ويبدو الحال - في هذه الدائرة - كما لو كان وعي التابع يسعى إلى تحرير ذاته بأن يضع نفسه مكان نقيضه المتبوع، وينقل عنه الصفات التي يتوهم أنها ترفع عنه تبعيته، وتسوّي بينه وبين نقيضه الذي يراه أكثر إيجاباً منه، خصوصاً حين يرى التابع نفسه جديراً بأن يكون مثل المتبوع في هذه الصفة أو تلك. وتتجلى هذه العملية في أفكارنا السائدة عن العالمية في الأدب على ثلاثة مستويات متداخلة يمكن رصدها والتمييز بينها للتوضيح فحسب: أولها تصورنا لهذه العالمية الأدبية بوصفها رتبة عليا نرجو لأدبنا الوصول إليها، ومكانة رفيعة لا يزال علينا إثبات جدارتنا بها، ودرجة كبرى من المشابهة بالآداب التي نحلم لأدبنا أن يكون مثلها في الحضور والتأثير. وثاني هذه المستويات يتصل بعلاقة صفة العالمية بآداب الأقطار التي لا تخلو علاقاتنا بها من معاني التبعية في المجالات السياسية والاقتصادية التي تفرض نفسها على بقية المجالات، وتؤدى هيمنتها المادية وممارستها لألوان القوة التي تملكها إلى جعل الاتبّاع والتقليد لازمة من لوازم التبعية. وأخيراً، هناك ارتباط هذه العالمية بلغات لها هيمنتها الثقافية التي ارتبطت، ولا تزال مرتبطة، بهذا الجانب أو ذاك من جوانب الهيمنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية. وتستوى هذه المستويات المتداخلة في ما يلزمها من دلالة متكررة الرجع، دلالة ترتبط بالتفكير في العالمية من حيث هي قيمة متعددة الأبعاد، تحقيقها كالوصول إليها مرهون بموافقة ضمنية أو صريحة من أصحاب الآداب المهيمنة الذين نتطلع إلى اعترافهم بنا، كما لو كنا نحلم في أن نأخذ منهم شهادة تؤكد تماثل بعض أدبنا مع آدابهم في الحضور والتأثير، ومن ثم مجاوزتنا التخلف الذي تتعدد دوائره التي لا ينفصل عنها أدبنا. لذلك ترتبط مفاهيم "العالمية" الغالبة على وعينا، من حيث هي علامة وصول إلى محطة التقدم، بتوترات قديمة لا تخلو، إلى اليوم، من شعور بالدونية الذي لا يفارقه شعور بالغبن في عالم يخلو من معنى التكافؤ بين الإبداعات القومية الوطنية أو المحلية. وهي توترات تراكمت لتصنع هذه العقدة النفسية التي ينطوي عليها المتخلف في علاقته بالمتقدم، وتؤدي إلى استجابات عصابية في حالات كثيرة، ولم تنحل، بعد، في مرحلة إيجابية تتوازن فيها الدوافع المتناقضة أو المتعارضة. أعني استجابات تتقلب ما بين المواقف الحدّية، وتنتهي إما إلى الرفض المطلق أو القبول المطلق للمعايير، أو التمثيلات، أو الصور المفروضة من الأعلى على الأدنى. والأول الرفض المطلق إعادة إنتاج للعفريت نفسه بما يشبه مقلوب الصورة ذاتها. والثاني القبول المطلق مشابهة تدني بأطرافها إلى حال من الاتحاد. وفي الموقفين إلغاء للغيرية التي يتميز بها كل طرف عن نظيره أو مقابله، وتأكيد لآلية دفاعية تنبنى على ما تقوم به الذات من تمويه تنسحب معه الدوافع الحقيقية إلى مستوى الغياب، تاركة مستوى الحضور الظاهر لتبرير أو تبريرات عارضة تخفي الدوافع الأصلية. وليس من الضرورى أن نتوقف طويلاً على حال الرفض المطلق في هذا السياق، فهو إلغاء للعالم خارج الذات بما يؤكد تهوس الذات بهذا العالم الذي تلغيه، خصوصا حين لا تفعل هذه الذات شيئا سوى استبدال تراتب قمعي جديد بتراتب قمعي قديم، وذلك في آلية لا تختلف جوهرياً في منحاها عن آلية "الاستغراب" التي ينبني عليها كتاب حسن حنفي الذي يحمل العنوان نفسه. أقصد إلى آلية رد الفعل الثأري الذي يتشكل بمركزية النقيض، ويقيم تراتب مقولاته على أساس من هذه المركزية التي ينفيها بنقيضها الذي هو مقلوب صورتها، والذي هو بناء بالسلب الخالص الذي يتهوس بحضور النقيض المرفوض في كل الأحوال. وانغلاق الذات على نفسها في هذا الحال، وبناء السدود والحواجز بينها وبين العالم المرفوض، ليس سوى الوجه الآخر من العملية التي تتحول بها صفات العالم المرفوض إلى نقائض تستعيده في حالات إقصائه، وذلك في سياق تبدو معه الذات كما لو كانت تبني عالما محكوماً تماماً بالعالم الذي ترفضه، والذي لا تنشئ سوى مقلوبه السالب، بعيدا عن أى تحرر حقيقي من أسره حتى في ذروة رفضه. واللافت للانتباه أنه لا يوجد حال صريح من القبول المطلق يوازي الأحوال الصريحة من الرفض المطلق، فأحوال القبول تتكشف عن درجات متباينة من المراوغة التي تتملص من معنى الاتّباع ظاهريا على الأقل. ولكنها لا تفارق المتصل القديم الذي يبدأ بما قاله ابن خلدون قديما عن ولع المغلوب بتقليد الغالب، وينتهي بما يشبه المعارضة التي تنطوى على معنى المنافسة، في الدائرة التي تستبقى مواصفات الأصل وشروطه في الفعل الذي لا يخلو من شروط المحاكاة. وما بين طرفي هذا المتصل لا تنتفي علاقات الاتّباع التي يعيد في إطارها التابع إنتاج المتبوع دون أن يعي، ومن غير أن يدرك أنه يعيد إنتاج ما يبقى عليه تبعيته ويحفظ عليه وضعه الهامشي. ففي ولع المغلوب بتقليد الغالب إلغاء للإمكانات الذاتية الخلاقة التي يقود تأكيدها وتطويرها إلى تحرير المغلوب من الغالب واستقلاله عنه، وفي المعارضة ما يبقي شروط النموذج الذي تتم منافسته بالرقص في سلاسله، والابتداع على مثاله، والحركة حسب شروطه، ومن ثم التفوق في المجال الذي يرتبط به ابتداء، أو السبق في المضمار الذي حددته الحركة السابقة لهذا الأصل سلفاً. وفي هذه الحالة أو تلك يظل فعل المحاكاة باقياً، متأصلاً من حيث هو إعادة انتاج للأصل بما يبقى على إتباعه أو تقليده حتى مع رغبة التفوق عليه. ولعل في المفارقة التي يتحول بها مبدأ الرغبة إلى مبدأ للواقع في هذا المتصل ما يكشف، ضمناً على الأقل، أن نزعة المركزية الأوروبية - الأميركية لا تظهر تجلياتها الأدبية عند منتجيها الأصليين وحدهم، وإنما عند مستقبليها الذين يقعون في أسر تخييلها، وذلك على نحو يؤدي بتجليات هذه النزعة إلى مجاوزة التأثير المراد في عقل التابع إلى ما يقوم به هذا التابع نفسه من إعادة إنتاج هذه النزعة في ممارساته الثقافية. وعندئذ، يغدو التابع، في فعل إعادة الإنتاج، شبيهاً بالمرآة التي تعيد إنتاج الموضوع المنعكس على صفحتها، وتشعه في اتجاه الأنظار المتطلعة إليها. ومنطقىٌّ - والأمر كذلك - أن تشيع تجليات هذ النزعة في أقطار العالم الثالث، نتيجة علاقة الاتِّباع التي تربط بعض التيارات الأدبية أو النقدية أو الفكرية في هذه الأقطار بنماذج تحاكيها في أقطار المركز الأوروبي - الأميركي. وفي هذه التجليات، يغدو ما نردده عن عالمية الأدب نتيجة من نتائج عملية التخييل التي وقعنا، وأوقعنا أنفسنا، في شراك غوايتها، خصوصا بعد أن قبلنا الأفكار الملازمة لها سبيل الاتبّاع، وأعدنا إنتاجها على سبيل الاقتناع، متخيلين العالمية صفة يمنحها المتقدم للمتخلف، أو رتبة يرتقي بها الأدنى إلى مصاف الأعلى. ونتيجة ذلك، أولا، كثرة النقاد الذين يحدثوننا عن مواصفات للعالمية، وليس في أذهانهم الاتباعية سوى استعارة مواصفات هذا النموذج أوذاك في بعض الإبداع الأوروبي - الأميركي، ناسين أو متناسين أن لكل إبداع خصوصيته التي لا تتعارض مع انفتاحه على غيره وإفادته من كل ما حوله، وأن لكل خصوصية قدراتها الابتكارية التي تبتدعُ لنفسها من المواصفات ما هو خاص بها دون غيرها، وما تترك به بصماتها المائزة على حضورها في الوجود. وعادة يكون هذا النوع من النقاد منتسباً إلى أعضاء تدريس أقسام اللغات الأجنبية التي هي لغات للمركز الذي تهيمن عليه الإنكليزية أولاً والفرنسية ثانياً، خصوصاً أولئك الذين لا يرون في عملهم سوى إعادة إنتاج الأصول الأجنبية التي يكتفون بتقليدها من غير إضافة جذرية، قانعين بتمثيل هذا التيار النقدي أو ذاك، أو هذا الناقد الأوروبي أو ذاك الأميركي، شأنهم في ذلك شأن أقرانهم من دارسي الأدب العربي الذين لا يفارقون موقف الاتباع في علاقتهم بالنقد الأدبي للمركز الأوروبي - الأميركي، الأمر الذي يسهم به هؤلاء وأولاء في تأكيد متصل الاتباع، سواء في الدائرة "الأنغلوفونية" أو الدائرة "الفرانكوفونية" المعاصرة، حيث التعارض الأحدث الذي ورث التعارض القديم نسبياً بين أنصار "اللاتين" وأنصار "السكسون" في المعركة النقدية التي اشتعل أوارها بين العقاد وطه حسين في الثلاثينات، وكانت في بعض ترابطاتها علامة من علامات الاتباع. أقصد إلى لوازم سياق هذه النبرة الواثقة التي جعلت من طه حسين يفتتح أطروحته عن "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية" - في باريس سنة 1917 - بقوله: "إني أعتقد بمنتهى اليقين أن تأثير أوروبا، وفي مقدمها فرنسا، سيعيد إلى الذهن المصرى كل قوته وخصبه". ولم يكن طه حسين في هذه الكلمات بعيداً عن زميله العقاد الذي سبقه إلى ما يشبه الموقف نفسه، عندما قدم الديوان الأول لصديقه إبراهيم عبدالقادر المازني عام 1913 في القاهرة، بقوله: "لقد تبوأ منابر الأدب فتية لا عهد لهم بالجيل الماضي، ونقلتهم التربية والمطالعة أجيالاً بعد جيلهم، فهم يشعرون شعور الشرقى ويتمثلون العالم كما يتمثل الغربي". والواقع أن تمثل العالم "كما يتمثله الغربي" هو المبدأ المعرفي الذي يفتح أبواب الوقوع في أسر نزعة المركزية الأوروبية - الأميركية، أولاً: لأنه مبدأ يعني تحيزا جغرافياً سياسياً، ضمنا أو صراحة، ويختزل صفات الإنسانية في دائرة بعينها لا تجاوز غرب أوروبا في كتابات العقاد وطه حسين الباكرة على الأقل، وثانياً: لأنه مبدأ يتحرك على أساس تسليم مضمر، مؤداه أن تمثل العالم "كما يتمثله الغربي" هو أسرع سبيل وأضمنه إلى التقدم الواعد، وثالثاً: لأنه ينطوي على تسليم مواز بثنائية الأعلى والأدنى، ويرد صفة الأعلى إلى مصاف "الغربي" الذي لا بد أن يصعد إليه كل من يريد مجاوزة وهاد "الشرقي" المتخلف الذي يستبدل به الصعود مقابله أو نقيضه "الغربي". والوقوع في شباك نزعة المركزية الأوروبية، وتشكيل الثقافة الوطنية على شاكلتها، هو النتيجة الطبيعية لمن لا يضع فعل تمثل العالم على هذا النحو موضع المساءلة، تأكيداً لأصالة التمثل وخصوصيته، خصوصاً في انفتاحه على غيره أو إفادته منه. ولحسن الحظ انتبه طه حسين والعقاد إلى شباك نزعة المركزية الأوروبية وشراكها في مسيرتهما العملية وممارساتهما الفعلية. ولذلك لم يكف كلاهما، كل بطريقته الخاصة، عن مساءلة أفكار الهوية الثقافية، ولم يتخليا عن موقف الالتزام بالواقع النوعي إطاراً مرجعياً في تأصيل معنى تمثل العالم وتعميقه. وكان من نتيجة ذلك تكامل وعي طه حسين، شيئاً فشيئاً، وبفعل الممارسة، بأهمية البحث عن ملامح خاصة للثقافة العربية، أو ملامح خاصة للروح الأدبي في مصر، وانطلق في كتابة "مستقبل الثقافة في مصر" سنة 1938 من حلم تأصيل "ثقافة مصرية إنسانية" تتيح للآخرين بخصوصيتها ما ليس عندهم. يقصد إلى ثقافة "قادرة على أن تغزو قلوب الناس وعقولهم... وقادرة على أن تتيح لهم من اللذة والمتاع ما يجدونه أو لا يجدونه في ثقافتهم الخاصة". ولم يختلف طريق العقاد عن طه حسين في هذا الجانب، فهو بدوره سعى إلى تأصيل خصوصية ثقافته، مؤكداً تمايز فعل تشكلها نتيجة همومها النوعية وأحلامها الفردية والجمعية المتميز. ولكن إذا كان طه حسين والعقاد نجيا من الشرك، عندما جاوزا موقف المحاكاة في مسيرتهما العملية، فإن الكثيرين غيرهما مضوا مع مبدأ تمثل العالم "كما يتمثله الغربي" إلى نهايته المحتومة. وكان ذلك إلى الحد الذي جعل من الكتابة النقدية عند هؤلاء أصداء للمفاهيم الأدبية التي تنتسب إلى المركز الأوروبي - الأميركي، ومن ثم التعود على فهم الأدب العالمي على أنه أدب المركز لا غير، وتحديد صفات العالمية التي يجب أن يتصف بها أدبهم الوطني أو القومى في ضوء مبدأ المشابهة مع أدب هذا المركز وليس سواه. وكانت اللازمة المنطقية لهذا الموقف إيقاع نوع من التطابق الدال بين معنى العالمية وواقع الشيوع والانتشار بواسطة لغة أو لغات المركز المهيمنة، وذلك على نحو أصبحت معه الترجمة من وإلى الإنكليزية بالدرجة الأولى ويليها الفرنسية التي تليها اللغات الأقل في الحضور الثقافي مثل الألمانية والإسبانية والإيطالية هي المعبر الأول والأهم الذي لا يكتمل من غيره الاتصال بالعالم المتقدم والصعود إلى ذراه، ومن ثم إمكان الحصول على جوائزه التي أصبحت بمثابة صكوك الغفران التي تدنى من جنته. ولذلك أصبح حلم الكثير من الأدباء ترجمة أعمالهم إلى الإنكليزية، حتى لو كانت الترجمة غير دقيقة، أو منشورة في أضيق نطاق، أو متواضعة الصياغة في اللغة المنقول إليها، أو حتى على سبيل الاستطراف والولع بغرائب الشرق، كما أصبحت عملية الترجمة إلى اللغة العربية نفسها أسيرة المركز الأوروبي - الأميركي، لا تفارقه إلى غيره إلا على سبيل الندرة، ولا تلتفت إلا في أقل القليل الذي يعد من قبيل الاستثناء إلى الآداب الآسيوية أو الافريقية التي نتقاسم وإياها الهموم نفسها، كما نشاركها رغبة التابع في التحرر من تبعيته. وترتب على ذلك أن أصبحت حركة الترجمة من العربية وإليها حركة وحيدة الاتجاه والبعد، لا تترك نقطة البدء في المركز الأوروبي - الأميركي إلا لتعود إليه بما يؤكد حضور المركز نفسه وإعادة إنتاجه في أكثر من مجال.