إذا كانت الولاياتالمتحدة استبشرت كثيراً باصطياد الرئيس العراقي بعد ثمانية أشهر من إسقاط نظامه، فلعلها خسرت ايضاً واحداً يعد أنفع من معظم حلفائها في المنطقة. فالرئيس العراقي المخلوع لم يكن - كما وصفه بعض منظري السياسة الأميركية - مجرد سدٍ منيعٍ أمام المد الخميني استفادت الولاياتالمتحدة منه في فترة زمنية معينة فحسب، بل كان يداً خفيةً للمصالح الأميركية في المنطقة ربما من دون علمه هو بذلك، كما كان سياجاً واقياً ضد كثير من الحركات الثورية الغاضبة على الغرب عموماً والولاياتالمتحدة خصوصاً. ها هي الولاياتالمتحدة تواجه اليوم، في ظل غياب الحكم الاستبدادي في العراق، ما تسميه "وكراً للإرهاب" في حال أشبه ما تكون بأفغانستان جديدة تتجمع فيها قوى "الإرهاب الإسلامي" العالمي من كل أصقاع الدنيا. وربما تمنت الإدارة الأميركية لو تستطيع إعادة الرئيس العراقي حيث كان، ليتولى لها إخماد الثورة الداخلية. وللحق، فإن قضية اصطياد الرئيس العراقي جاءت مخالفة للقوانين والأعراف والمواثيق الدولية. فالرئيس العراقي كان رئيساً شرعياً، وباعتراف دول العالم أجمع، فبغداد كانت تغص بسفارات العالم قبيل غزوها، كما أن أعلام العراق كانت ترفرف في عواصم العالم المختلفة وفوق أسطح المنظمات الدولية وكفى بهذا شاهداً على إثبات الشرعية الدولية لها. ومن الناحية القانونية الدولية لا يختلف الغزو العراقي للكويت صيف 1990 عن الغزو الأميركي - البريطاني للعراق في ربيع 2003. فالحالان متشابهتان تماماً باستخدامهما القوة العسكرية في غير حال الدفاع عن النفس المخولة في المادة 51 من ميثاق الأممالمتحدة. الفارق ان الولاياتالمتحدة لم تحصل على قرار من مجلس الأمن يخولها استخدام القوة العسكرية ضد العراق، بسبب الموقف الفرنسي الشجاع، فإذا بها تأخذ القانون بيدها، تماماً كما فعل العراق من قبل بصرف النظر عن الحجة الواهية بأن في العراق أسلحة دمار شامل تهدد أمن المجتمع الدولي. لكن الولاياتالمتحدة التي بحثت عن تلك الأسلحة حتى في لحية الرئيس المخلوع ولم تعثر عليها، كما تبين لها أن العلاقة بين "القاعدة" والنظام العراقي كانت مجرد تهمة بائسة أخرى، لذا رأت ان تلفت العالم إلى التاريخ الإجرامي للرئيس العراقي السابق وإشغاله بمسألة محاكمته. جرائم صدام إذا كانت تفاصيل الجرائم التي يتهم بها الرئيس العراقي السابق أكثر من أن تحصى في مقال كهذا، فإنه يمكن تقسيمها إلى نوعين: الأول جرائم ارتكبت داخل إقليمه، والآخر جرائم ارتكبت خارج إقليمه. ففي الصنف الأول تأتي عمليات الإبادة الجماعية والقتل الجماعي واستخدام الأسلحة المحظورة دولياً ضد شعبه كما فعل في إخماد انتفاضةة الأكراد في حلبجة في الثمانينات، تحت سمع العالم وبصره - أو عند سحق تمرد البصرة الذي تم بتشجيع أميركي من ادارة الرئيس جورج بوش الأب بعد حرب 1991. إضافة إلى ما يمكن أن يصل إلى مئات أو ربما آلاف الحالات التي انتهت بإعدام فردي بأوامر مباشرة من الرئيس العراقي السابق من دون محاكمات أو حتى اتهامات. أما الجرائم التي ارتكبها ذلك النظام خارج إقليمه فتشمل غزوه لإيران عام 1980 وغزوه للكويت عام 1990. وإذا كانت الحرب العراقية ضد إيران قوبلت بشيء من البرود في الأوساط العالمية، فإن الغزو العراقي للكويت في عام 1990 وما تبعه من تهديد لأخطر وأهم منطقة نفط في العالم هو الذي لفت أنظار العالم "المتحضر" الى جرائم صدام حسين. وعلى رغم أن الجرمين متطابقان في كونهما خرقاً صريحاً للمادة 24 من ميثاق الأممالمتحدة والقوانين الدولية الأخرى المحرمة استخدام القوة العسكرية، إلا أن رد فعل الولاياتالمتحدة والدول الأخرى غربية وعربية كانت مختلفة في الحالين اختلاف الليل والنهار. محاكمة صدام لكن السؤال يفرض نفسه الآن: إذا كانت الولاياتالمتحدة وضعت قبضتها على الرئيس العراقي السابق فلماذا لا تحاكمه في داخل بلادها كما فعلت برئيس بنما السابق نورييغا من قبل؟ الإجابة قد تبدو واضحة بأن الأساس القانوني لأي محاكمة قانونية يجب أن يكون إما ما يعرف عند أهل الاختصاص بمصطلح "إقليمية التطبيق" أو "شخصية التطبيق"". فإقليمية التطبيق تكون في حال ارتكب المتهم مخالفة أو جريمة في إقليم بلاد معينة - سواء كان مواطناً أو أجنبياً - فيطبق في حقه قانون إقليم تلك البلاد. وأما شخصية التطبيق فهي أن تطبق دولة ما قوانينها على من يحمل جنسيتها سواء كان يقيم داخل إقليمها أو خارجه. والولاياتالمتحدة التي لا تزال فيها بقية من قانون لا تكاد تجد في قضية الرئيس العراقي المخلوع أي مبرر يمكن أن يكون أساساً لمحاكمته داخل إقليمها، إذ إن صدام لم يرتكب أي جرم تجاه الولاياتالمتحدة، لا في داخلها ولا في خارجها، ولم يتسبب بأي عمل إجرامي ضد الولاياتالمتحدة بطريق مباشر أو غير مباشر، وبالتالي فإن تطبيق أقليمية القانون غير مقبول من الناحية القانونية. وغني عن القول أنه ليس للولايات المتحدة أن تطبق قوانينها على الرئيس العراقي السابق من باب "شخصية التطبيق" فهو ليس من مواطنيها. في هذا السياق يحسن التنبيه إلى أن تصريح وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد بأن الرئيس العراقي المخلوع سيعامل ك "أسير حرب"، تمشياً مع اتفاق جنيف الثالث 1949، يدلّ على بعد الإدارة الأميركية الحالية التي اعترضت على عرض صور أسراها في التلفاز العراقي باعتباره مخالفة لاتفاق جنيف، لكنها نشرت صور الرئيس العراقي في أسوأ أحواله وأذلها عن فهم القانون الدولي. فاتفاق جنيف المذكور يصون أسرى الحرب عموماً من أي محاكمة، ولا يجيز لأي دولة تحتجز أسرى حرب أن تحقق معهم أكثر من سؤال الأسير عن اسمه ورتبته العسكرية وتاريخ ميلاده أو ما يقاربها من معلومات كما نصت على ذلك المادة 17 من اتفاق جنيف ذاته. إضافة إلى ذلك، يثير تجريم صدّام وحده وإغفال بقية أعضاء حكومته السابقة، من طارق عزيز الى محمد سعيد الصحاف، أكثر من سؤال عن صدقية الصفح الأميركي الذي لا ينزل إلا على من يحب. وفي ذلك استخفاف بالقانون بجعل المسؤولية القانونية حول جرائم النظام السابق كلها تقع على عاتق رجل واحد. في أي حال، تعتزم الإدارة الأميركية محاكمة الرئيس العراقي السابق، لكن السؤال الذي يواجهها الآن هو: أين تجرى محاكمته؟ وأمام الاميركيين ثلاثة خيارات: الأول ان يحاكم صدام حسين في العراق حيث يتهم بارتكاب مجازر بشرية يمكن اعتبارها "جرائم ضد الإنسانية" أو "جرائم إبادة جماعية" قام بها الرئيس السابق ومعاونوه. وعلى رغم ان هذا الخيار يحمل في طياته الاتهام الأكثر خطراً وأهميةً من الناحية القانونية، والذي يجب أن يقدم على سواه من الاتهامات، إلا إن تطبيقه قد يكون صعباً من الناحية الواقعية بسبب الظروف الأمنية الحالية في العراق. فمحاكمة الرئيس السابق في بلده، الذي لم تستقر أموره بعد، لا يستبعد هجمات على المقر الذي يحتجز فيه المتهم أو أثناء خروجه ودخوله، وقد تتكرر الهجمات ما دامت المحاكمة قائمة. هذا أمر تدرك الإدارة الأميركية حقيقة خطورته وقد ترى ألا تجازف به وهو الأمر نفسه الذي منع البيت الأبيض من الإعلان المسبق عن زيارة الرئيس بوش الخاطفة لبغداد والتي جاءت أشبه بتسلل تحت جنح الليل منها إلى زيارة رئيس أقوى دولة في العالم لمقر قواته المسلحة. كما أن السبب ذاته جعل المسؤولين الغربيين عموماً يحجمون عن زيارة بغداد. لكن اذا أصرّت الإدارة الأميركية على محاكمة في العراق فقد ترى ان تفعل ذلك في البصرة حيث الوضع أكثر أمناً واستقراراً، فلا مقاومة في الجنوب العراقي كما في الوسط وبعض الشمال. الخيار الثاني هو أن احالة الرئيس العراقي السابق على المحكمة الجنائية الدولية ليحاكم على غرار الرئيس الصربي السابق ميلوشيفيتش محكمة خاصة بجرائم الحرب في صربيا، وعلى غرار محاكمات مسؤولين ألمان ويابانيين في نورمبرغ وطوكيو بعد الحرب العالمية الثانية. إلا إن الولاياتالمتحدة لم تعترف بالمحكمة الجنائية الدولية التابعة للأمم المتحدة ولم تقبل الانضمام إليها خوفاً على مسؤوليها وقادة جيوشها من المثول أمامها ذات يوم، لذلك فهي قد لا ترى إحالة صدام حسين إلى مثل هذه المحكمة خشية أن تكون سابقة قانونية تستخدم ضدها فيما بعد. لعل الخيار الأمثل في هذه الحال هو أن تحيل الإدارة الأميركية محاكمة الرئيس العراقي إلى دولة ثالثة. فبعض الدول التي تضررت من سياسات الرئيس العراقي السابق كانت ولا تزال تتمنى أن تضع يدها على من تسبب في اختلال أمنها وقتل شعبها وضعضعة اقتصادها. هذه الدول المتضررة تشمل إيرانوالكويت وإسرائيل. فإيران قد تكون أحق من غيرها بالمحاكمة الرئيس العراقي السابق إلا إن العلاقات الأميركية - الإيرانية ليست جاهزة لقفزة كهذه بعد. وأما خيار تسليم صدام حسين إلى إسرائيل فبديهي أنه لن يكون مقبولاً دولياً وعربياً. ثم أن ما قام به الرئيس العراقي السابق تجاه إسرائيل من إطلاق صواريخ مبعثرة أخطأ معظمها أهدافه أثناء الحرب الأميركية الأولى على العراق 1991 لا يعد شيئاً إذا ما قيس بما عمله تجاه شعبه وجيرانه. وبالتالي فإن محاسبة صدام حسين على الصغائر وترك الكبائر أمر قد يكون قبيحاً بالولاياتالمتحدة أن تقره وترضاه. يبقى خيار اجراء المحاكمة الى الكويت، وهو قد يبدو مغرياً للأميركيين والكويتيين على السواء، فالغزو العراقي على الكويت هو الذي لفت أنظار العالم إلى خطر الرئيس العراقي السابق. إذا كانت الولاياتالمتحدة جعلت من نفسها وصية على الأنظمة "الخارجة على القانون" فهذا قد يفتح شهيتها السياسية لباب قد يكون فتحه سهلاً ولكن ربما صعب إغلاقه فيما بعد. ففي الولاياتالمتحدة هناك مطالبة جادة، رغم كونها ساخرة، بوضع صدام حسين في زنزانة قريبة من زنزانة رئيس بنما الأسبق، المخلوع بالقوة الأميركية نفسها، لكي يضم إليهما فيما بعد بقية الركب من قائمة الزعماء الذين تنوي الولاياتالمتحدة خلعهم في المستقبل، في مظهر يمكن أن يطلق عليه في ما بعد "حديقة الإنسان". * كاتب وحقوقي سعودي.