أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 3 كانون الأول ديسمبر 2003 قراراً بطلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية حول الجدار العازل في الضفة الغربية. وعندما انعقدت الدورة العاشرة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 تشرين الأول أكتوبر 2003 للبحث في إصرار إسرائيل على بناء الجدار العازل للآراضي الفلسطينية كان ذلك رداً على قيام واشنطن بإعاقة أي عمل لمجلس الأمن في هذه القضية. وكان قرار الجمعية في دورتها المذكورة استفتاءً على رغبة المجتمع الدولي في وقف هذه التصرفات الإسرائيلية التي وصفها الرئيس بوش بأنها تجعل التسوية النهائية مستحيلة إذا ضمت إسرائيل هذه الأجزاء من الآراضي الفلسطينية. والحق هو أن الأمين العام للأمم المتحدة تابع القضية بناءً على تكليف الجمعية العامة له إذ انها أوصت بأن يظل الموضوع قيد النظر وأن تدعى مرة أخرى إلى الاجتماع في ضوء موقف إسرائيل. واجتمعت الجمعية العامة فعلاً يوم 3 كانون الأول ديسمبر 2003 وهي عازمةٌ على أن تحيل قضية الجدار العازل إلى محكمة العدل الدولية لموافاتها بالرأي الاستشاري حول هذه القضية. وانعقدت الجمعية في دورتها المستأنفة بناءً على تقرير الأمين العام الذي أدان فيه إسرائيل مؤكداً أن بناء الجدار يتناقض مع التزامات إسرائيل وفقاً للقانون الدولي وقرارات الأممالمتحدة. فما هي الدلالة القانونية والسياسية لإحالة قضية الجدار إلى محكمة العدل الدولية خصوصاً أن إسرائيل تركز على حرمان الأممالمتحدة من أي دور في تسوية الصراع العربي الإسرائيلي وأنها أبدت استخفافاً واضحاً بقرار الجمعية العامة الذي صدر في تشرين الأول أكتوبر 2003 ، كما أن الولاياتالمتحدة حريصةٌ على أن تحتكر مساعي التسوية حتى تضمن أن تظل في صالح إسرائيل؟ وهل قررت المجموعة العربية بهذه التحركات تحدي الولاياتالمتحدة؟ وما هو المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه المساعي؟ وما أثر هذه المساعي القانونية التي عزفت الدول العربية عن السير فيها لسنوات طويلة على أي فرص للتسوية السياسية لهذا الصراع؟ ولعل طلب المجموعة العربية، واستجابة العالم كله، عقد الدورة العاشرة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 21 تشرين الأول أكتوبر 2003 هو رد على إحباط واشنطن لمسعاها في مجلس الأمن لإدانة إسرائيل بسبب بناء الجدار ومطالبتها بوقف البناء وتدمير ما تم بناؤه. وصدر قرار الجمعية العامة بأغلبية 184 صوتاً بمعارضة إسرائيل وأميركا بطبيعة الحال واثنين من حلفائهما، وامتناع اثنتي عشرة دولة عن التصويت، أي أن القرار يعبر عن المجتمع الدولي بأسره، لأن المعارضة له يجب ألا تحتسب لأنها الدول التي يتصدى لها القرار. ولا شك أن قرار الجمعية العامة الذي رفضته إسرائيل وأبدت إزدراءها له يعد نصراً ديبلوماسياً كاسحاً للعالم العربي ضد إسرائيل والولاياتالمتحدة. إذ قال المجتمع الدولي بهذا القرار كلمته، وهي أن إسرائيل دولة محتلة، وأن بناء الجدار عمل غير مشروع، وفقاً لقواعد القانون الدولي. والواقع أن سبب عدم المشروعية يرجع إلى ان سلطة الاحتلال لا يجوز لها أن تصادر الأراضي المحتلة، ولا أن تغير طبيعتها الجغرافية، ولا أن تضر بسكان المناطق بموجب الحماية المقررة لهذه الأراضي وسكانها في إتفاقية جينيف الرابعة للعام 1949، كما أن هذا الجدار يعد أداة لضم الأراضي الفلسطينيةالمحتلة إلى إسرائيل، حسبما أوضح تقرير الممثل الخاص للجنة الأممالمتحدة لحقوق الإنسان، وكذلك مقاله في "الهيرالد تريبيون" الدولية في أوائل آب أغسطس 2003، فهذا الجدار بديل عن قانون يصدر من الكنيست بضم هذه الأراضي فيلقى معارضة وقد يلقى مقاومة دولية كما حدث مع قانونين أصدرهما الكنيست بشأن القدس والجولان عامي 1980، 1981. وترك قرار الجمعية العامة في دورتها الاستثنائية الأخيرة الباب مفتوحاً، في ضوء استجابة إسرائيل، لإجراءات أخرى قد يكون من بينها أن تطلب الجمعية العامة خلال دورتها المفتوحة رأياً استشارياً من محكمة العدل الدولية حول مدى تطابق التصرفات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية مع الوضع القانوني لهذه الأراضي، وأرجو أن يظل الدفع والحمية الديبلوماسية حتى نهاية الشوط، وهو طرد إسرائيل من الأممالمتحدة بعد أن برهنت على أن لا علاقة لها بحب السلام، وهو أهم شروط العضوية في المنظمة الدولية، وأنها من أهم عوامل عدم الاستقرار والفوضى في المنطقة، وإشاعة عدم اليقين في جدوى الحلول السياسية، وإضعاف قيمة القانون الدولي في عالم اليوم. والطريق إلى ذلك هو أن تقوم الجمعية العامة بطلب الرأي الاستشاري وأن يتم صوغ الطلب، بحيث تقبله المحكمة، لأن طلب الرأي الاستشاري يجب أن يكون حول مسألة قانونية ليس حولها نزاع قانوني ولا تقبل المحكمة المنازعات ذات الطابع السياسي، ولذلك فإن مجرد صدور طلب من المحكمة في قضية إسرائيل بالذات سيعد سبقاً ديبلوماسياً لا نظير له وستكتمل أركان هذا الانتصار بأن تقبل المحكمة الطلب، حيث يتوقع أن تقع معركة طاحنة أمام أبواب المحكمة بين من يدفعون إلى تمكين المحكمة من أداء دورها لأول مرة في هذا الصراع المحموم الذي غذته إسرائيل وصنعته منذ البداية، وبين أنصار إسرائيل بين القوى السياسية وداخل المحكمة نفسها، حيث للولايات المتحدة قاض يهودي هو الفقيه الكبير برجنتال الذي خلف القاضي شويبل منذ شباط فبراير عام 2000، كما قد يسانده قضاة آخرون لأسباب سياسية، وفي مقدمهم القاضية البريطانية الاستاذة روزالين هيغنز، وستكون تلك فرصة للمحكمة لكي تعرض الطبيعة القانونية لوضع الأراضي الفلسطينية، وأن تؤكد الالتزامات الواردة في الاتفاقية الرابعة على دولة الاحتلال وستضيف المحكمة بهذا الرأي الإستشاري إلى الفقه الدولي في قضايا تصفية الاستعمار وإدانة الاحتلال، خصوصاً في هذه المرحلة التي تشيع فيها الولاياتالمتحدة بأن الاحتلال أصبح مشروعاً، وأن استخدام القوة أصبح سائغاً. وقد يشجع ذلك على أن تفصل المحكمة في إطار الوظيفة الاستشارية والافتائية في قضية الاحتلال الأميركي للعراق، وأن يتاح لها الفرصة لأن ترد التفسيرات الأميركية المتعسفة لقراري مجلس الأمن رقم 1483 في 22/5/2003، والقرار 1511 في 15/10/2003. وإذا اتيح لمحكمة العدل الدولية أن تحدد المركز القانوني للأراضي الفلسطينية، فإن ذلك سينسحب على قضية القدس، لأن الجدار يمس أراضي القدس أيضاً. وفي ما يتعلق باختصاص المحكمة بإصدار الفتوى المطلوبة من الجمعية العامة بشأن إنشاء إسرائيل للجدار، فإنها سلطة تقررها المحكمة وفق النظام الأساسي، ولا يصرفها عن تقرير اختصاصها إلا ما تراه من عدم توفر الشروط اللازمة في المسألة موضوع الفتوى، وليس للولايات المتحدة أو لغيرها أن تعترض على اختصاص المحكمة، وهناك فرق كبير بين قبول اختصاص المحكمة من جانب الدول الأعضاء في منازعات قضائية وبين سلطة المحكمة الأصلية في ان تقرر بنفسها أنها مختصة بتقديم الرأي الإستشاري في القضية محل البحث. وإذا كان الرأي الإستشاري بطبيعته صادراً بناء على طلب من الجمعية العامة أو مجلس الأمن أو من الجهاز أو الوكالة بناء على تفويض من المجلس أو الجمعية، فإن رأي المحكمة ملزم للجهاز الذي طلب الفتوى، كما أنه ملزم لكل أجهزة الأممالمتحدة، بحيث لا تملك الجمعية العامة إذا صدر الرأي الاستشاري ضد إسرائيل أن تتخلى عن دورها ومواقفها المتسقة مع هذا الرأي، وبوسع الجمعية، إذا أصرت إسرائيل على تحدي الأممالمتحدة، أن تسعى إلى مراجعة موقف إسرائيل من قرارات الأممالمتحدة منذ إنشائها بما يؤدي إلى العمل على طرد إسرائيل طبقاً للمادة السادسة من ميثاق الاممالمتحدة إذا هي امعنت في عدم احترام هذه القرارات، والإمعان يعني اتخاذ موقف ثابت من رفض القرارات والاستهانة بها، وهو ما ثبت بحق إسرائيل التي نشأت بقرار من الجمعية العامة، ولكنها تنصلت من الميثاق، وأبدت تحدياً واضحاً لقرارات الأممالمتحدة، وآخر الأدلة هو إعلان الحكومة الإسرائيلية رفضها للقرار الأخير، بل والإعلان عن مشروع لبناء المستوطنات تحدياً للجمعية والمجتمع الدولي. بقى أن نقول إن المعركة الديبلوماسية تحتاج إلى حشد دولي وإلى إدارة قادرة وإلى نفس طويل، وإنه يحتمل أن تسعى واشنطن وإسرائيل إلى تفتيت هذه الإندفاعة الديبلوماسية العربية، وان توقف سيرها، كذلك فإن هذه الحملة الديبلوماسية ستؤثر بلا شك في سلوك إسرائيل على الأرض، ولا يجوز ان تكون المذابح الإسرائيلية في فلسطين ومحاولة فرض أمر واقع بالحديد والنار سبباً في تقاعسنا عن المضى في هذه الحملة، لأنها تدخل القضية الفلسطينية، خصوصاً في هذه المرحلة الحرجة إلى منعطف مهم، ستدفع إسرائيل ثمنه. ولدعم هذا الخط الدبلوماسي العربي يجب أن ينشط الاعلام العربي على كل الساحات لتبصير العالم بالجرائم الإسرائيلية، وبأن إسرائيل لا تبحث عن أمنها كما تزعم، ولكنها تسعى إلى إبادة الفلسطينيين وإشاعة الفوضى في المنطقة، وإهدار جهود التنمية فيها. ويجب أن يواكب هذا الجهد الإعلامي بجهد قانوني على مستوى الخبراء والقانونيين العرب، وذلك برفع دعاوى ضد إسرائيل، بخاصة من جانب الفلسطينيين الذين تنتزع أراضيهم لبناء الجدار ويمتد موضوع الدعوى إلى اعمال مصادرة وتجريف الأراضي وهدم المنازل، وأن تصل الحملة إلى قلب المجتمع الإسرائيلي، وإلى الجاليات اليهودية في العالم. وأخيراً يجب التنبيه إلى أن الرأي الاستشاري يصبح عادة خطاً رسمياً للأجهزة التي طلبته، ومثال ذلك الرأي الذي طلبه مجلس الأمن من محكمة العدل الدولية بشأن اقليم ناميبيا العام 1971، الذي صار أساساً قوياً لتحصين ناميبيا ومستقبلها وثرواتها ضد الاعتداء عليها من جنوب إفريقيا، كما أصبح رأي المحكمة إلى الجمعية العامة العام 1975 في قضية الصحراء الغربية أساساً قوياً لموقف الأممالمتحدة من قضية الصحراء، رغم دعم الولاياتالمتحدة للمغرب، واختلال الميزان السياسي لصالح المغرب. * كاتب مصري.