منذ انتخاب ياسر عرفات رئيساً للسلطة الفلسطينية 20 كانون الثاني/ يناير 1996 لم تعرف الضفة الغربية وغزة ارباكاً سياسياً وأمنياً كالارباك الذي يعانيه السكان اليوم. كان ذلك بسبب خلاف ارييل شارون ومحمود عباس حول تطبيق "خريطة الطريق"… وخلاف أبو عمار وأبو مازن حول نفوذ رئيس السلطة… وخلاف زعماء "حماس" و"الجهاد الإسلامي" مع "أبو مازن" حول مفهوم الهدنة. وكما حدث عقب التوقيع على اتفاق أوسلو منذ عشر سنوات تقريباً، تحولت المراحل الانتقالية من "خريطة الطريق" إلى سباق مجنون لوضع العراقيل على الأرض في غياب التدخل الأميركي الحازم. وكان من الطبيعي أن يخف هذا التدخل بسبب اقتراب معركة الرئاسة تشرين الأول/ اكتوبر 2004 وازدياد المنافسة على استمالة المتبرعين اليهود ممن يؤمنون بأرض إسرائيل الكاملة!. وبما أن مشروع "خريطة الطريق" يتحدث عن تفكيك المواقع الاستيطانية داخل ما يسمى ب"يهودا والسامرة"، فإن الرئيس جورج بوش لا يريد الانجرار إلى صدام مع شارون في موضوع مواقع الاستيطان والجدار الفاصل، خصوصاً أن سياسته الفاشلة في العراق بدأت تنعكس بشكل سلبي على نتائج استطلاعات الرأي، وتمنعه من ممارسة الضغط على إسرائيل. ولقد استغل شارون نقطة الضعف هذه لتوسيع حملة الانتقامات على اعتبار أن بلاده شريكة في محاربة الإرهاب بعد هجمات 11 أيلول سبتمبر. وتزعم الصحف الأميركية أن هذا التماثل ازداد وقعاً بعد غزو العراق، وأن بوش أبلغ صديقه شارون أن ورطته مع 23 مليون عراقي لا تقل عن ورطته هو مع ثلاثة ملايين فلسطيني. والملاحظ أن لهجة التفاؤل اختفت من خطبه إثر نسف مقر الأممالمتحدة، وازدياد عدد القتلى في صفوف قواته. كذلك تراجع وزير الدفاع دونالد رامسفيلد عن تفاؤله، وراح يتحدث عن وجود أميركي طويل ومكلف في الشرق الأوسط شبيه بوجود القواعد العسكرية في أوروبا خلال مرحلة الحرب الباردة. ويرى المراقبون أن المؤشرات السياسية الأخيرة التي صدرت عن واشنطن تدل على تغيير في المواقف السابقة. المؤشر الأول يظهر الموافقة على قبول قوات الأممالمتحدة في العراق شرط أن تكون تحت القيادة الأميركية. والمؤشر الثاني ينبئ عن ارتفاع أسهم كولن باول بعدما تحدثت الأنباء عن احتمال استبداله بكوندوليزا رايس. والطريف أن الوزير باول باشر في استخدام نفوذه المتجدد بطريقة أزعجت صقور الإدارة وأقلقت شارون. أي أنه طالب إسرائيل بضرورة ضبط النفس، ودعا ياسر عرفات إلى استخدام نفوذه مع فصائل المقاومة. وكان بهذا النداء يؤكد اعتراف الولاياتالمتحدة بقدرة عرفات على ضبط الأمن، لأنه في نظرها، هو المعطل لمشروع "خريطة الطريق". الرئيس عرفات استغل نداء كولن باول ووظفه لحسابه، معتبراً أن إدارة بوش تراجعت عن موقفها السابق تجاهه، وان "أبو مازن" لم ينجح في ملء الفراغ. وفاجأ رئيس الوزراء محمود عباس بإعادة الاعتبار لجبريل الرجوب وإعلان تعيينه مستشاراً للشؤون الأمنية. وكان واضحاً أن هذه الخطوة المرتجلة يراد بها احراج "أبو مازن" وارغامه على اقصاء محمد دحلان. وهكذا انفجرت أزمة الصلاحيات بحيث هدد محمود عباس باللجوء إلى المجلس التشريعي بهدف الحصول على تجديد لسلطته المهددة. واعتبر أن عرفات يريد انتزاع الدور الذي خصه به مؤتمر العقبة، وأنه الآن يسعى لاستمالة بوش عن طريق الإيحاء بأن المنظمات الفلسطينية الرافضة تقبل بدعوة الهدنة التي أطلقها. ولكي يدلل على استيائه من تداخل الصلاحيات، ارسل "أبو مازن" بالفاكس إلى أصدقائه نص الافتتاحية التي نشرها الزميل جبران تويني في "النهار"، منتقداً غياب السلطة المركزية الموحدة. وكان بهذه المقارنة يريد أن يقول إن حاله ليست أفضل من حال رفيق الحريري، وأن الرئيس أبو عمار يريد مصادرة كل مسؤولياته، الأمر الذي استغله شارون لمضاعفة حملة الانتقام. يقول ياسر عرفات إن "أبو مازن" لم يأخذ شرعيته من الشارع الفلسطيني، وإنما أخذها منه ومن جورج بوش ومن ارييل شارون. وهذا ما يفسر تأرجحها المتواصل بين كفتي الميزان بسبب عجزه عن توفير أجواء آمنة للمنظمات التي منحته فرصة الهدنة. وهو يقول إن غضب رئيس الوزراء يجب أن ينصب على شارون الذي نسف له "خريطة الطريق" وعطل له الجدول الزمني. والمعروف أن أمل الفلسطينيين في نجاح مشروع السلام كان مرتكزاً على الجدول الزمني الذي وضعته "الخريطة"، أي وقف الإرهاب وتفكيك المواقع الاستيطانية، وإقامة دولة فلسطينية في حدود موقتة، ثم تسوية نهائية دائمة بين سنة 2004 و2005. وأعلن مساعد وزير الخارجية الأميركي وليام بيرنز، خلال زيارته الأخيرة للمنطقة، بأن الجدول الزمني قد انتهى. وحجته أن اختبار التنفيذ هو الذي يحدد الانتقال من مرحلة إلى أخرى. وبما أن مبدأ التبادلية - أي التنفيذ المتوازي - لم يُحترم، فإن "الخريطة" بقيت مجمدة. وكان المطلوب، في رأيه، أن تبدأ السلطة الفلسطينية، كشرط مسبق، بتفكيك البنية التحتية للإرهاب مقابل ازالة البنية التحتية للاحتلال. ولقد تجاهل جورج بوش هذين المطلبين لأنه يرفض الاصطدام مع شارون! يقول الأوروبيون إن مشروع "خريطة الطريق" وضع حسب رؤية الرئيس الأميركي لإقامة دولة فلسطينية على مراحل. وتنطلق هذه الرؤية من مفهوم انهاء الإرهاب في كل مكان في العالم، خصوصاً في مناطق السلطة الفلسطينية بشكل خاص. وبما أن شرعية استخدام القوة هي حكر على السلطة المركزية، فقد كان يتوقع من عرفات إلغاء "حماس" و"الجهاد الإسلامي" ومختلف فصائل المقاومة، وبما أنه لم يفعل، فقد اختير محمود عباس أبو مازن للقيام بهذا الدور، خشية أن تتحول الضفة وغزة إلى نسخة مكررة عن أزمة لبنان خلال السبعينات والثمانينات، أي قيادات متناحرة، متنافسة على انتزاع السلطة المركزية المهمشة أو المغيبة. وبدلاً من اعطاء الرئيس التنفيذي الجديد فسحة أمل ومساعدته على اطلاق الأسرى وفك الحصار عن المدن والقرى، سمحت واشنطن باغتيال نشطاء "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، الأمر الذي عقّد الموقف وجعل الشارع الفلسطيني أكثر التصاقاً بزعماء الانتفاضة. يقول شارون إن "أبو مازن" يستطيع إحداث متغيرات على الساحة الفلسطينية، إذا هو استطاع أن يفكك المنظمات المسلحة. وفي رأيه أن الحل العسكري يمكن أن ينشر السلام في فلسطين، تماماً كما يعتقد بوش أن القوة العسكرية تستطيع توفير الأمن والاستقرار في العراق. بينما يرى الأوروبيون أن الموقف الأميركي الغامض هو الذي يعرقل التسوية ويمنع نجاح "خريطة الطريق". وهم يتساءلون عن الوسائل العملية لتطبيق الخريطة وتجميد المستوطنات واطلاق سراح السجناء وتفكيك الحواجز ووقف بناء الجدار الفاصل. ويرى كوفي أنان، الأمين العام للأمم المتحدة، أن "خريطة الطريق" وثيقة مبهمة لأن بالإمكان تفسيرها على نحو مخالف لأهدافها. وبما أنها أصبحت الوثيقة الوحيدة بعد وفاة اتفاق أوسلو، فقد تحول محمود عباس إلى حكم ضعيف في لعبة مجهولة القواعد، يقابله على الطرف الآخر ارييل شارون الذي يتجاهل انذار الحكَم العربي والحَكم الدولي، مدعياً أنه يطبق رؤية صديقه جورج بوش الذي يرفض أي تدخل عسكري مباشر لئلا يخسر معركة انتخابات الرئاسة في الدورة المقبلة! * كاتب وصحافي لبناني.