محمد أنقار باحث ودارس مغربي، للقصة والأدب المقارن، يقدم روايته الاولى وهو في العقد السادس من عمره، بعنوان "المصري" وينشرها في دار الهلال. ينضم إلى كتيبة نقاد السرد الذين يضعون خبرتهم النظرية موضع التجريب الإبداعي، وكان نشر بعض القصص القصيرة من قبل. لكنه يختار موضوعاً طريفاً، وتحدياً شائقاً ليدير حوله كتابته. يتعلق الموضوع بجيل كامل من المثقفين والكتاب العرب، الذين أولعوا بقاهرة نجيب محفوظ، حتى حكى لي أحدهم - في المغرب ايضاً - أن حلم حياته في شبابه كان يتمثل في زيارة الجمالية والحسين، والتطلع الى ما فيهما من مشربيات، علّه يلمح طيف عائشة وهي تسترق النظر إلى حبيب القلب كما جاء في الثلاثية. اعتبرت ذلك لوثة لطيفة من الصديق الاديب، تكشف عما يفعله الفن في تشكيل المخيال والمشاعر والحياة. فالفن الحقيقي ليس مجرد مرآة عاكسة لها بأي حال، بل هو صانع لنفسها ومشغل لحرارتها ووهجها. وجاء محمد أنقار ليجسد هذه الرؤية بتقنيات فنية عالية، ومكر روائي جميل. فإذا كان محفوظ خلّد قاهرته في ضمير الادب العربي والعالمي فإن الحلم الذي يطارد المغربي أحمد الساحلي الملقب بالمصري هو أن يعيد خلق مدينته الاثيرة "تطوان" بالطريقة ذاتها. وعلى رغم أن الولع بمصر وبنجيب محفوظ خاصة قد استبد به طيلة حياته، فإنه لم ينشط لتحقيق هذا الحلم سوى بعد أن فقد صديق عمره عبد الكريم الصويري عقب احالته للتقاعد بأسبوع واحد. وهنا يتجلى التحدي الذي يواجهه أحمد، فهو اشرف على التقاعد ايضاً، وعليه أن يستثمر الاسبوع اليتيم الذي يهجس بأنه كل ما تبقى له من العمر - مثل نجيّ روحه - في كتابه قصة المدينة المغربية العريقة، وتسجيل دروبها وكائناتها، ظلالها وأشواقها، في دفة رواية واحدة. بهذا تصبح المفارقة الكبرى هي إبداع قصة محاولة كتابة رواية لا تتم، إذ تنسج كل خطوة محبطة في طريق جمع المادة، وإعداد الملفات - على عادة محفوظ ايضاً - والتجارب الغريبة التي تكتنف ذلك، تنسج طرفاً في سردية محكمة ذات شعرية فائقة. أي أن الفشل الذريع في كتابة الرواية الموعودة يسجل نجاحاً باهراً للمصري في تجسيم الولع المحفوظي، وتعلق المبدعين المغاربة بالنموذج الثقافي المشرقي. مما يكشف عن تلاحم هذه الثقافة، وتناغم أطرافها المتباعدة، وهي تعمل في سبيل تخليق الوعي النقدي بالحياة. لعل أول أثر حاسم لمحفوظ على الذائقة الادبية العربية، في أبرز تجليات هذا الوعي النقدي، ما يشهد به الراوي برهافة بالغة عن كيفية تحوّله من عشق الشعر - وهو ديوان العرب - الى غواية الرواية بسحرها الجديد، فيحكي تجربته في هذا الصدد قائلاً: "ذات يوم، وأنا في عنفوان تفتحي العقلي والجسدي، أطلعني أحدهم على رواية "القاهرة الجديدة"، فتصفحتها دونما مبالاة، مثلما هو شأني تجاه كتب النثر ومختاراته، قلت للطالب متبجحاً: - أي كتابة يمكن أن تعلو فوق الشعر في الجاذبية والسحر؟ افترّت شفتاه بضحكة الرجل الناضج المطلع على أسرار الحياة قبل الأوان ثم رد بثقة: - لا تحكم قبل أن تقرأ! واختليت في حجرتي في الطابق العلوي بدارنا، وعكفت على مطالعة الرواية منذ ساعة الغروب الى وقت قريب من الفجر، ولما أشرق ضوء الشمس كنت قد تحوّلت الى كائن جديد كأني أولد للمرة الأولى. فقد جعلني كتاب "القاهرة الجديدة" أعيد نظري القصير في نفسي وعلاقاتي وواقعي الخارجي. أي صراحة وأي تعرية للأوضاع الاجتماعية العفنة: الرشوة والقوادة وبيع الذمم والعهر والتنازل السهل عن المبادئ. فلسفة "طز"، والمتاجرة بالثقافة والأخلاق والقيم، وخدشت الجرأة القصصية حساسيتي الناعمة، وكشفت لي عن عوالم مغايرة لم آلفها في محيطي المحافظ. وأخذت ألتهم كل ما نشره وسينشره هذا المارد المصري المسمى نجيب محفوظ. حفظت بعد ذلك اسماء أبطاله ومواقع حوادثه وحوارياته وتفاصيل رسوم كتبه". ومع أن هذا الولع المحفوظي كان امتدادا لوجد عاناه المثقفون المغاربة في عشقهم للأدب المشرقي، فإن ما تميز به احمد الساحلي هو اكتشافه لجماليات الحياة والحرية من منظور محفوظ واحساسه بالتفرد عن أقرانه إمعاناً في هذا الوله. فهو يزهو على رفيق صباه بعد رحيله في نجواه بأنه كان يقرأ مثله الصفحات المشرقية، ويرتاد معه قسم الصحف والمجلات القادمة من هناك، لكن من دون أن يصل به الوجد الى أن يشم الورق ويميز خلال الرائحة بين طبعة دار الكتب وطبعة دور الهلال والمعارف ومكتبة مصر، أو يفرق بين رسوم اللباد او جمال قطب او حسين بيكار. كما أن المرحوم - على حد تعبيره - "لم يتعذب من أجل أن يعيد حميدة الى الصواب، أو يحلم بقضاء ليلة واحدة في أحضان نور والمخاطر تحفنا من كل جانب، أو أن يعيش ما تبقى من حياته مع عايدة في جزيرة نائية خالية من البشر، او أن ينعم بالصفاء وهدوء الروح في خلوة مع الشيخ الجنيدي... كما أنه لم يتطلع ابداً الى كتابة قصة طويلة عن "تطوان" بإيحاء مصري". وإذا كان محمد أنقار عرف كيف يقبض على هذه الهواجس الحميمة في الوجدان الثقافي العربي بمهارة بالغة، فإنه استثمر خبرته الجمالية ووعيه النقدي في تحليل النماذج السردية لكشف أسرار الشرنقة الإبداعية، وتوصيف كيفية تولّد الدود الحريري فيها، مخترقاً منطقة مهمة ما زال المبدعون لدينا يجفلون من الاقتراب منها، وهي قصة ابداعهم ذاته. فسجل بنجاح بالغ تجربة الفشل في الكتابة الروائية لبطله التطواني الطيب. فهو يتتبع في قرارة روحه كيفية تشكل مشروعه وتردده ومعاناته في تنفيذه. ومع أننا ينبغي أن نستبعد مطابقة الشخصية مع الكاتب ذاته فإن محمد أنقار يبث في روح أحمد الساحلي وعلى لسان أصدقائه أصداء عميقة لنداءات الإبداع وصعوباته في تقديره. فعندما يقول له احد اصفيائه، وهو المحامي المتمرس بالحياة والقانون شيئاً عن شروط الكتابة، فإنه يكشف بذلك اسباب احباطه: "المهمة ليست سهلة، فأن تستنجد بالخيال وتكتب رواية يعني ان تكون لديك تجارب عريضة في الحياة. وتكون قد تمرّست بالحلو والمر وتدنست بالموبقات، وانفتحت على الناس وعاشرت اخبارهم وأشرارهم. إن دودة القز لن تعطيك حريراً إن لم تهيئ لها شروط النجاح والانتاج، وتوفر لها اوراق التوت. أما أنت - وأعذرني على صراحتي - فلست سوى هدهد مسالم منطوٍ على نفسه، كان ولا يزال سجين درب النقيبة". ثم يعقب على ذلك في نفسه: "ربما كان المحامي على صواب، فهو يصدر عن خلاصات يستمدها من الفلاسفة والقانونيين ومن القضايا التي يدافع عنها في المحاكم. ربما يكون قد سبر سراديب تطوان اكثر مما سبرتها على الرغم من انه لم ينشأ ويترعرع بين جنباتها العتيقة. أما ابن المطمر يقصد نفسه فليست له سوى ملاحظات عابرة عن عادات المدينة وازقتها وتقاليد سكانها. وعلاقات اجتماعية كسيحة، مع قراءات في المنفلوطي والرافعي ونجيب محفوظ والرهوني ومحمد داود... انني لا اعرف من اين سأبدأ، ولا أدرك بوضوح طبيعة المهمة التي يفترض ان تتشكل... ما الذي انفرد به نجيب محفوظ حتى ألم في رواياته بتفاصيل القاهرة وأزقتها وملايين بشرها وأصناف عاداتها وآلاف مشكلاتها وأحلامها؟ لا بد من ان يكون ثمة سر يجمعني بالاديب المصري اكثر مما يجمعني بصديقي المحامي ذي الاصول البدوية!". وهكذا ظل يطارد شبح محفوظ مستحضراً ما أدمنه من الجلوس على المقاهي وشرب الشيشة والتجول في الحواري الشعبية، والتمرس بالوظيفة الادارية من دون اعتماد على الموهبة وحدها. وكلما رأى تاجراً تصور انه نموذج يمكن أن يضاهي السيد أحمد عبدالجواد. وحتى إذا ساورته الاحلام كانت محفوظية، تتصل بحرصه على اقتناء أحدث كتبه وتأمل طبعاتها ورسوم اغلفتها، وقد قاده ذلك الى تسجيل الصور المشابهة في مقاهي "الفدان" بمدينته "تطوان". واختلطت بتلك الحكايات صورة المعلم كرشة وقد وقف عند باب مقهاه بزقاق المدق، يلتفت في قلق يميناً ويساراً منتظراً فتى احلامه. ثم استدعت النارجيلة صورة فرج ابراهيم والحرافيش مثل عاشور الناجي وقد جلسوا جلسة تنطق بالهوى أو المغامرة. والطريف أن هذا الراوي المدرك لأصول فن الرواية وتقنيات كتابتها يعرف ما يفتقده في كتابته بوعي شديد. فهو يعترف بأن "العبقرية الروائية تتمثل في القدرة على استخلاص الحدث المنسجم مع الموقع القصصي المخصوص، بدل الاعتماد على الحكايات الجاهزة او اللوحات الوصفية الجامدة"، ومع ذلك فإننا نجده يمعن في جمع هذه اللوحات الوصفية، بل يقسم روايته المنشودة الى فصول، يتصل اولها بشرح ما يطلق عليه "جنائزية وقت العصر". ويدور ثانيها حول الإعداد النفسي لكتابة الرواية، كما تدور فصولها الاربعة التالية على احياء مدينة "تطوان". ويظل الخيط المفقود في هذا المشروع هو خلق النماذج البشرية التي تعمر تلك المناطق وإضاءتها من الداخل، وكيفية تمثيل لجوهر الحياة في "تطوان" وهو "عراقتها" أو "عتاقتها" على حد تعبيره. وإذا كانت الرواية المحكية بلسان الراوي البطل ذاته انتهت الى تمثيل اخفاقه الذريع في تحقيق مشروعه الابداعي عن مدينة "تطوان"، مما يعتبر تجسيداً لبنيتها المفرغة. فإنه عبر تشكيله لهذا الفراغ يصف دقائق احواله الشخصية ومغامراته الطريفة وشبكة علاقاته بزوجته المحبة الودود ومجموعة اصدقائه، وقصة الايام السبعة التي تلت احالته للتقاعد وهواجس قرب الأجل التي طاردته وصبغت رؤيته للحياة، ثم عدداً من الاحداث الغريبة التي مرت به في هذه الفترة الوجيزة خاصة ما انتهى اليه امر اخيه ابراهيم وابنه نجيب في حبه وزواجه المثير للمشكلات، كل ذلك صنع نموذجاً شيقاً لسردية ناجحة مفعمة بمذاق الحياة التطوانية الحميمة، خصوصاً بعد ان اخذ يتجمع مثل قطرات البخار على سهل ليتسارع تكاثفه مع ايقاع الزمن اللاهث في الايام الاخيرة. وكلما بات من المؤكد قرب انتهاء مهلة العمر الافتراضي، وبعد تحقيق المشروع الابداعي، اخذت بنية الرواية المفرغة في التبلور والصلابة، حتى جاءت السطور الاخيرة لتنذر بإخفاق المشروع الداخلي، وهي تكمل في الآن ذاته اكتمال استدارة جسده السردي المحكم. ولعل الاقتصار على تقنية الراوي البطل من دون تدخل من الاصوات والنماذج المتداولة معه، هو الذي أدى الى أن هذا التفريغ الداخلي، حتى اصبح الولع المحفوظي بديلاً من اللوعة التطوانية التي ما زالت تستحق جهد أنقار وغيره حتى تدخل بقوة في الذاكرة العربية. * ناقد مصري.