سواء قبضوا عليه قبل أشهر، استنباطاً من بلح النخل العراقي الذي قطّعه نخلة نخلة حتى تلازمت الصفة "جائع" بموصوف واحد هو: "عراقي"، أو قبضوا عليه الآن في هذا الشتاء، استنباطاً من ملابس الجيش الأميركي الواقية من البرد الذي قصم صدور العراقيين بالأمراض. المهم أنه أصبح في السجن. لا يهم أين كان، في جحر، في كوخ. المهم أنه جرب ما أذاقه للآخرين لسنوات. كان مطارداً يرتعد من البرد والجوع والخوف وأمامه على بعد أمتار القصور والحدائق التي سكنها لسنوات وبجانبه مئات الألوف من الدولارات التي سلبها من أموال المساكين. بماذا نفعته القصور والأموال؟ عندما نشروا صورته قلت: يا الله ما أصغر الدنيا واللهم لا شماتة. قبل عشرين سنة كان وما أكثر كان الآن ملء السمع والبصر، بل منذ عشر سنوات، بل منذ خمس، بل منذ سنة، بل منذ شهور... كان الآمر الناهي. كان إذا تكلم فكلامه مسموع وإذا أمر فأمره نافذ وإذا قال فقوله حق. كان حاكماً عادلاً، بطلاً ليس له مثيل، فارساً مغواراً، حامياً للعرب ومحرراً لهم. كان سيداً لا يضاهيه أحد. كان الحاكم الشرعي للعراق! سمعت بعد إلقاء القبض عليه، محامياً عربياً يقول إنه يجب الدفاع عن الرئيس الشرعي للعراق الذي كان من حقه قيادة المقاومة لتحرير بلده. هل يؤاخذ هذا المحامي على كلامه؟ لا، فهذه عادة كثيرين من العرب. كتبت ذات مرة رداً على بعض الكتاب الكويتيين الذين لم يعجبهم رفض البعض شن الحرب الأخيرة. قلت عندها ان رفض الحرب ليس بالضرورة دفاعاً عن صدام وأن كثيراً من كتاب الكويت وصحافييها ليس لهم الحق في الحديث عما يجب فعله في العراق، بل إن ذلك الحق يجب منعه حتى عن كثير من الكتاب العرب للسبب الآتي: في الثمانينات وفي اللحظة نفسها التي كان صدام يهوي بيده على الرقبة العراقية كان يصيح كثير من مثقفي العرب وصحافييهم: زد يا سيداً ملك العرب فأنت تحكم أهل الشقاق والنفاق. كان الصراخ والمطالبة بالحرية يدور في كل مكان في بلاد العرب إلى أن يصل إلى البوابة العراقية فيقف أمام رأي الحجاج بن يوسف! عندما أنظر إلى صورة العراق وأقرأ تاريخه وجغرافيته أقول كذب الحجاج وكذب صدام. بلد يملك أهله ذلك التاريخ العريق ولهم تلك العقول النابغة ويعيشون في بغداد والكوفة والبصرة، ويرون نخيله ودجلته وفراته... ليسوا أهل الشقاق والنفاق، وإن ظهر بينهم ألف شاذ مستبد مثل صدام أو ألف حاكم أتى على ظهر دبابة روسية أو أميركية. عندما كانت يد صدام بعيدة من رقبة الكاتب كان بطلاً وعندما وصلت إليه صاح: مجرم، قاتل، مستبد. أما من لحقه من أبناء العرب شيء من نفط صدام أو كان في نفسه غاية من الغايات فقد صرخ قائلاً: تابع يا بسمارك العرب. لا أعلم ماذا سيكون رد من يدافع عن صدام لو أنه جرب الوصول إلى عاصمة بلاده. هل سيبقى على مبدأه؟ كان صدام صرحاً... فهوى. لم يكن من خيال بل من حقيقة محسوسة بانت في الرقاب التي قطعها وفي النفوس التي سجنها وفي الأموال التي سلبها وفي العيون التي أبكاها... كان صدام يقرأ التاريخ ليعيد صوغ الاستبداد بطرق عصرية يتجاوز فيها أخطاء من سبقه من المستبدين، ولم يقرأ التاريخ ليتعظ... يحكى أن حكيماً عربياً قديماً قال: لا يموت الظالم حتى يقتص منه. ودارت السنون وكل ظالم لا يموت حتى يقتص منه. لكن، حدث ما لم يكن في الحسبان. أتاه في أحد الأيام رجل فقال له: يا حكيم، لقد قلت لا يموت الظالم حتى يقتص منه وهذا فلان ظلم الناس وقد مات من دون أن يقتص منه، فما قولك؟ رد الحكيم: أشهد أن لله يوماً آخر. إما قصاص في الدنيا أو قصاص في الآخرة، وبين العذاب الأدنى والعذاب الأكبر مشاهدات كثيرة لم يتعظ منها صدام. يعتقد البعض أن الزعيم المهيب جرب الذل والمهانة عندما وقع في أيدي الأميركيين، تلك المهانة التي أذاقها للعراقيين. لا، لقد جرب الذل والمهانة لسنوات طويلة ولكن لم يعتبر. يحكى أن حاكماً مستبداً كان في أحد الأيام جالساً في قصره متنعماً وحوله جموع من الحاضرين. دخلت ذبابة ووقفت على أنفه. موقع من أكثر المواقع رفعة في الوجه عند العرب. هشها فطارت، لكن ما لبثت أن عادت. أخذت تحوم فتقع مرة على الأنف ومرة على العين ومرة على الذقن... وكأنها تختار المكان الذي تريد ويزيد من حنق الحاكم. وهو في كل مرة يطردها تعود أكثر شراسة. حين تعب وأعيته الحيلة واستولى عليه الغضب استعان، كالعادة، بجنده. صاح في قائد عسكره: لقد حكمنا على هذه الذبابة بالإعدام فنفذوا أمرنا. حاول القائد تنفيذ أمر سيده مرات ومرات ولكنه فشل مع طيرانها السريع والمتواصل. أمام خيبته ونظر سيده والحاضرين استدعى نفراً من الجند ليساعدوه في تنفيذ الأمر بالقضاء على الذبابة المتآمرة مع أعداء الوطن. ويتكرر الفشل ويتزايد عدد الجنود وتنتهي المعركة بهزيمة نكراء للجند. لم يستطيعوا قتلها. في أثناء المعركة كان بين الحاضرين، في مجلس الحاكم، رجل عالم حكيم ينظر ويهز رأسه. لاحظ الحاكم ذلك، فسأله في غضب بالغ عن سبب هزه لرأسه. أجابه الحكيم: لن تستطيع قتل الذبابة يا مولاي. رد الحاكم: لمَ؟ قال الحكيم: لأن الله خلقها لحكمة. رد الحاكم: وما هي الحكمة من خلق الذبابة؟ قال الحكيم: خلق الله الذبابة يا مولاي ليذل بها الجبابرة. لكي يذل حاكم مستبد، مثل صدام، شعبه ويرهب جيرانه احتاج الى جيش من الوزراء والجنود والمدرعات والدبابات... أما لكي يهان هو فالأمر لا يحتاج الى أكثر من ذبابة. كان من يذلّه يقول له: إنك أهون من أن تجيّش لك الجيوش. هل لاحظ أحد أن الفارق بين الذبابة والدبابة مجرد نقطة؟ فعلاً "ضعف الطالب والمطلوب". * كاتب سعودي.